اللامركزية الإدارية الموسعة في ليبيا
أ.د.عبدالقادر عبدالله قدورة
أستاذ القانون الدستوري – بنغازي
(الجزء الأول )
التاريخ سيحكي عن هذه الفترة الممتدة من 1969 و حتى قيام ثورة 17/فبراير لعام 2011 و التي كانت فترة عصيبة في الواقع و سيحكي عنها المؤرخون فيما بعد الذي أريد قوله أن هناك مناطق في هذه الفترة عانت أشد أنوع الظلم من رجل حمل في قلبه الحقد و الكراهية لفئة من الناس و لجزء من أرض الوطن و للأسف وجد من الليبيين من يساندونه و يقفون معه بل أجزم القول بأنه لولا مساندة و دعم هؤلاء الناس ما أستطاع النظام القذافي أن يبقى طوال كل هذه الفترة و أرتكب خلالها ما أرتكب من المجازر و إهانات للشعب الليبي و نفذ حقده و كراهيته بتطبيق المقولات و نزع أملاك الناس و إهانتهم و تم كل ذلك بوجود هؤلاء الناس معه و الذين كانوا رأس حربة لنظامه الظالم كل هذه الأمور سيتحدث عنها التاريخ و سيكتشف الشعب الليبي في يوم من الأيام من هؤلاء الناس الذين ربما يتلونون كل يوم مائة لون .
إذن من الأتراك إلى الإيطاليين إلى الإدارة البريطانية كان النظام الإداري الليبي يقوم على اللامركزية الإدارية كانت المناطق تتمتع بسلطة محلية واسعة بل أنه في بعض الفترات من العصر التركي كان شرق البلاد يخضع مباشرة إلى الحكومة التركية .
جاء الاستقلال بعد حرب التحريرالأولى و شكلت لجنة لوضع الدستور و التي قامت بعملها ز وضعت دستور عام 1951 و الذي نتيجة للظروف القاسية التي كانت تمر فيها البلاد حيث كان الفقر الشديد و قلة الموارد و تشرذم القيادات و اختلاف خياراتهم خاصة في المنطقة الغربية دفع الجميع إلى اختيار النظام الفيدرالي و ظهرت ليبيا الجديدة بثلاث ولايات (برقة – طرابلس – فزان) و استمر هذا النظام حتى عام 1963.
هناك الكثير من الناس يتسألون حول دور الفيدرالية في توحيد البلاد خاصة كما قلنا بعد الاستقلال و ذهاب الايطاليين و تحرير البلاد من قبل القوات البريطانية و غيرها مع وجود جيش لليبيين معهم يسمى جيش التحرير ،و كانت البلاد في ذلك الوقت تعاني من اصطفاف قبلي و إقليمي شديد نتيجة للاختلاف الذي حصل في فترة وجود الليبيين في المنافي خارج الوطن، و لم يكن هناك أفضل من النظام الاتحادي الذي يعطي لكل ولاية الحق في إدارة شئونها بنفسها و كانت الإمكانيات كما قلنا قليلة و شحيحة و هناك تفاوت كبير في هذه الإمكانيات رغم قلتها بين أقاليم الدولة الثلاث.
بعد أكثر من 12 سنة ، اعتقد و دون أي مشاورات تم الإعلان عن الانتقال من النظام الفيدرالي إلى النظام الموحد حيث تم تعديل دستور 1951 كما نص على ذلك الدستور نفسه ، وفق الإجراءات المنصوص عليها في المادة 197 منه و يخضع هذا التعديل لنص المادة 198 التي تنص على شرط تصديق الملك على هذا القانون المعدل للدستور و الذي صدر عن مجلس الأمة (النواب و الشيوخ ) مجتمعاً بصفة جمعية تأسيسية اشترطت المادة 199 من الدستور زيادة عن الأحكام السابقة موافقة جميع مجالس الولايات التشريعية على تعديل أحكام الدستور الخاصة بشكل الحكم الاتحادي.
و هذا الانتقال أمر آخر لا استطيع أن أتحدث عن أسبابه و لا عن دوافعه لأنه يأخذ الوقت و في حاجة إلى بحث عميق فيه و لكن الواقع أن الأمر صدر بتعديل الدستور و إلغاء النظام الفيدرالي و إعلان النظام الموحد في ليبيا.
و في الواقع لم تتم الأمور بهذا الشكل السريع و إنما كانت هناك تمهيدات سابقة لتحقيق ذلك و انتهى الأمر بصدور قانون تعديل الدستور في 1963 و تكليف مجلس الوزراء بإصدار قرار تقسيم البلاد إلى محافظات الذي صدر في سنة 1963 ، ثم في عام 1964 صدر المرسوم الملكي بقانون الذي يبدو أنه اعتمد نظام المحافظات كتقسيم جديد للدولة الليبية.
هذه التطورات يتحمل مسئوليتها من كان في الحكم في ذلك الوقت لان إلغاء النظام الفيدرالي و الانتقال إلى النظام الموحد هو الانتقال في الحقيقة إلى دولة مركزية كما سنرى ربما هذا ما أتاح الفرصة عام 1969 لمجموعة صغيرة من الناس من خطف البلاد هذا الخطف الذي دام أكثر من 40 سنة.
لقد كانت هناك ثلاث ولايات تمارس اختصاصاتها الإقليمية عن طريق مجالسها التشريعية حيث التعبير الشعبي القريب و عن طريق مجالس تنفيذية تمارس الاختصاصات الإقليمية مع الحكومة الاتحادية ، و هذه الاختصاصات الهامة يتم اختصارها في ثلاث مجموعات :
1- اختصاص دستوري بمعنى أن كل ولاية تقوم بوضع قواعد ذات طبيعة دستورية مثل النظام الأساسي للولاية و لكن بشرط بطبيعة الحال ألا يخالف في مواده أياً من أحكام و مواد الدستور الاتحادي و هذا ما نصت عليه المادة 177 من الدستور الليبي السابق 1951 ، و عندما ألغي النظام الاتحادي من الطبيعي أن تلغى المادة 177 من الدستور و المحافظات التي تم إنشائها بعد إلغاء النظام الفيدرالي ليس لها أي اختصاص دستوري و إنما اختصاصاتها إدارية فقط كما سنرى بعد ذلك.
2- اختصاص تشريعي ، حيث كان يمكن لكل ولاية أن تضع ما تراه من القوانين في الأمور التي لم يجعلها الدستور الاتحادي من اختصاص السلطة التشريعية الاتحادية ، فقد نص الدستور الاتحادي عام 1951 على منع المجالس التشريعية في الولايات من التشريع في بعض الموضوعات كما جعل ذلك في مسائل أخرى مشترك ، و كانت من المواد الرائعة في الدستور 1951 المادة 39 التي قضت بأن تتولى الولايات الاختصاص التشريعي و التنفيذي في جميع المسائل التي لم يعهد بها الدستور للحكومة الاتحادية و في عام 1963 ألغي هذا النص و هو نص قريب من نص آخر موجود في الدستور الأمريكي.
3- اختصاص قضائي ، الولايات تملك اختصاص قضائي خاصاً بها و بالتالي فلها محاكمها الخاصة التي تمارس هذا الاختصاص و قد نصت المادة 195 من الدستور السابق 1951 أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم المحلية في الولايات و قد ألغيت بطبيعة الحال هذه المادة في عام 1963.
4- اختصاص إداري ، الولايات في النظام الاتحادي تتمتع باختصاص إداري واسع فهي المسئولة عن الجهاز الإداري الذي يقع في نطاق الولاية و هي تتولى تنفيذ القوانين سواء تلك الصادرة عنها أو الصادرة عن الحكومة الاتحادية ، و من أهم الأمور كما رأينا أن الاختصاصات بين الولاية و الحكومة الاتحادية يقوم بتحديدها الدستور بينما في نظام الدولة الموحدة فهذه الاختصاصات و هي بطبيعتها تقتصر على الشئون المحلية يمكن تحديدها بقانون.
كذلك يجب التنبيه على أن هناك فرق واسع بين سلطات الولايات و السلطات المحلية ، حيث أن السلطات الموجودة على رأس الولايات هي في الحقيقة سلطة بالمعنى الحقيقي للكلمة حيث تحتوي على السلطات الثلاث التنفيذية و التشريعية و القضائية و لدى كل ولاية جهازها الحكومي الخاص بها ، و قد نص الدستور السابق 1951 على أن لكل ولاية محاكمها الخاصة بها و هذا ما نصت عليه المادة 185 من الدستور ،و لها مجلسها التشريعي المادة 183 من الدستور ، و لها أيضاً مجلسها التنفيذي المواد 179- 182 من الدستور .
و لذلك يمكن لنا أن نصل إلى خلاصة مفادها أن النظام الاتحادي هو نظام سياسي إداري ، أما غيره من الأنظمة فهي أنظمة إدارية تستمد سلطتها من سلطة واحدة موجودة في الدولة مقرها عادةً في العاصمة.
هكذا يبدو المشهد لدولة اتحادية وجدت في ليبيا عام 1951 بدستور و نظام سياسي ملكي ، بالتأكيد أن هذا النظام لم يكن كاملاً و لم يكن خالي من العيوب أهمها في اعتقادي و هذه قد أصابت النظام بالضعف من البداية :-
1- شخصية الملك في ذلك الوقت كانت شخصية محبوبة و محترمة من قطاع واسع من الليبيين و هو قاد البلاد في فترة الجهاد و أستطاع أن يصل بها إلى الاستقلال و لكن كانت شخصية زاهدة في السلطة و كان كبير السن و لا يوجد له أولاد و حصلت مشاكل في العائلة المالكة كل ذلك أضعف الملك و أضعف النظام السياسي و أتاح للمقربين المطلعين الفرصة لحصول صراع خفي أو علني على السلطة دون أي اعتبار للمصالح الوطنية العليا و ربما هذه من الأسباب التي قادت جهات وطنية و أجنبية إلى الدعوة و العمل على تغيير شكل الدولة من الاتحادية إلى الدولة الموحدة المركزية بهدف السيطرة على البلاد في حالة غياب الملك .
2- غياب الحياة السياسية الكاملة ، صحيح كانت هناك صحافة تتمتع بهامش واسع من الحرية و لكن لم يكن مسموح بإنشاء الأحزاب السياسية أو جمعيات المجتمع المدني ،كذلك لم يكن هناك أفق واضح لمستقبل البلاد السياسي و لم يفكر أحد في ذلك.
3- ظهور النفط و تحول الدولة الليبية إلى دولة منتجة ثرية و بالتالي الرغبة الشديدة في وظائفها و هذا أجج الصراع بين الاتجاهات المختلفة داخل النظام الليبي في ذلك الوقت و ظهرت لدينا المشاريع و ظهر أيضاً الأغنياء الجدد و تعقدت أمور الدولة و الإدارة .
و صدر القانون رقم واحد سنة 1963 بشأن تعديل أحكام الدستور و ألغى النظام الاتحادي كما قلنا و تم إنشاء نظام الدولة الموحدة ( الجريدة الرسمية العدد الأول 27 ابريل 1963) و قد ذكرت المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أن الأسباب المالية هي السبب الرئيسي أو الأساسي للعدول عن النظام الاتحادي و هي حجة لم أفهمها في الحقيقة فالفترة السابقة من عام 1951 حتى عام 1963 كانت ليبيا أكثر فقراً و يمكن بعد عام 1963 و اكتشاف النفط أصبحت الأمور من الصعب تصديقها و القول أن السبب الرئيسي كانت المصاريف المالية أعتقد كما قلت ليس صحيح و إنما هناك أسباب أخرى لإلغاء هذا النظام و ربما منها التمهيد لحصول ما حصل عام 1969 كما سبق القول هناك حاجة لتعميق البحث في أسباب إلغاء النظام الاتحادي و خاصة مع الشخصيات الحكومية في ذلك الوقت التي قامت بهذا التعديل و الإشراف على تنفيذه فيما بعد .
و بدأت عملية إعادة بناء الدولة من جديد، حيث كان في الدستور مادة انتقالية هي المادة 201 التي تنص على تقسيم المملكة الليبية في ذلك الوقت إلى عشر وحدات إدارية يصدر مجلس الوزراء قراراً بتسميتها على أن يتولى رئاسة كل وحدة موظف يعين بمرسوم ملكي، و تطبيقاً لهذه المادة فقد صدر القرار بشأن التنظيم الإداري للمملكة بتاريخ 25 ابريل 1963 (جريدة رسمية العدد الأول 27 ابريل 1963).
و قد تضم قرار مجلس الوزراء هذا القواعد التالية :-
1- تقسيم المملكة إلى عشر محافظات و تقسم كل محافظة إلى متصرفيات و كل متصرفية إلى مديريات و يبين الحدود الإدارية لكل منها.
2- جعل على رأس كل محافظة محافظ يتبع وزير الداخلية و يكون مسئول أمامه عن القيام بواجباته و اختصاصاته و يعتبر ممثلاً للحكومة في حدود المحافظة.
3- أوجب تشكيل مجلس استشاري في كل محافظة يعين أعضائه بقرار مجلس الوزراء و يتولى المحافظ رئاسته و اختصاصاته تقديم التوصيات و المشورة دون أي التزام للإدارة بها.
و في سياق هذا التطور الإداري بعد إلغاء النظام الاتحادي و تنفيذاً للمادة 176 من الدستور صدر المرسوم الملكي بقانون رقم 8 لسنة 1964 بشأن الإدارة المحلية و قد وضع هذا المرسوم أسس تنظيم سلطات عدم التركيز الإداري و سلطات البلديات و حدد العلاقات بينها و بين السلطات المركزية في العاصمة.
و رغم تقسيم هذا القانون البلاد إلى عشر محافظات إلا أنه لم يمنح الشخصية المعنوية القانونية لأي منها (الجريدة الرسمية عدد خاص 31 أغسطس 1964) ، و يجب الإشارة إلى أن هذا النظام الإداري الليبي قبل عام 1969 شهد الكثير من التطورات عن طريق إصدار قوانين جديدة آخرها كان القانون الصادر بشأن الإدارة المحلية الصادر بتاريخ 1/9/1967 و قانون البلديات رقم 19 لسنة 1968 ، و لكن كل هذه القوانين لم تخرج النظام الإداري الليبي عن طبيعته بكونه نظام إداري قائم على عدم التركيز الإداري.
و لكن السؤال ما هو عدم التركيز الإداري؟ هذا أسلوب إداري من أساليب الإدارة المركزية و هو يعني بأن تقوم السلطة المركزية بتخويل كبار موظفيها في الأقاليم أو المحافظات بعض السلطات ليقوم بها و هو بالتالي يؤدي إلى توسيع سلطات ممثلين الحكومة المركزية و لا علاقة له بإعطاء الصلاحيات للإقليم و سكانه و هو بالتالي يختلف على النظام اللامركزية الإدارية.
....للموضوع بقية في الحلقتين الثانية والثالثة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق