الجمعة، يناير 6

من أدبيات الوطن ( الصديق بودوارة )

                                  وادي الذنوب

                                      قصة بقلم : الصديق بودوارة*

ـ املأوه ذنوباً .. كلما ارتكب أحدكم معصيةً فليخبر الوادي بها .. هكذا يمتلئ .. وعندما تصل ذنوبكم إلى فمه .. عندما يفيض بها سيرسل لكم علامة .. سيصبح وادياً من ذهب ، عندها تنعمون برغد العيش .. تتوبون عن الذنب ..والتائب من الذنب كمن لا ذنب له !!
أخبرنا شيطان بلدتنا .. دليلنا إلى التهلكة.. وعرافنا الذي لا يُشق له غبار ، صرنا نقترف المعاصي .. ما ظهر منها وما بطن .. أحياناً على استحياء ومرة أخرى علانية .. لا تتسرعوا في الحكم علينا .. لسنا بلدةً من الفساق والعياذ بالله .. نحن بشر مثلكم .. بشرٌ طيبون .. ذنوب الواحد منا لا تتعدى النظر إلى جارته الحسناء بطرف عينه اليسرى .. أو الهمس بلسان سؤٍ في حق بعضهم .. ربما نجتمع على نار مواقد الفحم الشهية ونتبادل أسرار غيرنا .. بعض الأحيان نماطل في رد الديون إلى اصحابها ولكن ليس بسؤ نية وانما للفقر المدقع .. قد نتساءل بخبث : من أين هبطت الثروة على رأس ( نحناح ) شيخنا المهيب ؟ .. نعرفه فقيراً لا مال له .. وهل لذلك علاقة بتجارته المريبة مع ( زيدون ) تاجر الحشيش ؟
ربما استغرب بعضنا أشياءً أخرى لا علاقة لها بالمال .. مثلاً بلدتنا الصغيرة التي يزورها الموت بين الحين والآخر .. كيف لا يموت الأنذال ؟ وكيف نفسر تلك المعجزة الصغير التي لا تتوقف عن الحدوث ؟ .. منذ عشرين سنة لم يمت نذل واحد في البلدة .. رغم أننا نملك منهم الكثير .. هذه بعض الذنوب .. لنا أيضاً ذنوب حلوة المذاق .. موعد مع حبيبة ، أو قصيدة غزل ، ربما تتطور الأمور إلى حد اختلاس قبلة ، هذا كل شئ ، لكن كان للشيطان رأى آخر :
ـــــ هذا لا يجوز ، ( كلام فارغ ) ، هذه ذنوب لا تليق حتى بطفل في مقتبل عمره ، إذا استمر الوضع على هذا الحال فلن يمتلئ الوادي قبل ألف عام ، أنتم بلدةٌ بليدة ، انظروا إلى البلدة المجاورة لكم ، لقد تمكن سكانها من ملء ثلاث وديان حتى الآن وانتم تتلكأون في وادٍ واحد !!
 اجتاحنا الخجل ، وأحسسنا أننا مجموعة من الكسالى بلا نفع ، وعدنا على أعقابنا ذلك اليوم والعار معقود على الجباه ، وملء أفواهنا صمتٌ طويل :
ــــــ علينا أن نعمل بهمةٍ أكثر ، لا يجوز أن نهزم في هذه المعركة ، سيشمت بنا الجميع ، هذا الوادي اللعين يجب أن يفيض بالذنوب ، سنصبح أضحوكة الجميع إذا لم نفعل .. لم تعد المسألة مسألة ذهب وثروة .. إنها مسألة كرامة !!
كان مختارنا يصيح والحماس يجتاحه كعاصفة مدمرة ، وكنا نستمع والحيرة تستبد بنا :
ـ ولكن كيف ؟ ، أيها المختار المبجل ، نحن أناس طيبون ، هذا كل ما نقدر عليه ، لكنكم تريدون أكثر ، ارسموا لنا الدرب وسنمشى خلفكم .
تلك الليلة غادرنا مجلس المختار ، تركناه يجلس على نار موقد الفحم الشهي ، أمامه الشيطان وبينهما تتمدد الأفكار الطازجة متأثرة بالحرارة حسب ما نصت عليه احدث قوانين الفيزياء .
صباح اليوم التالي كنا نستمع إليهما ، اقصد إليه ، كان مختارنا يملى علينا قائمة طويلة من المعاصي :
ـ هذا لا يكفى .. افعلوا أي شئ ، افهموني جيداً ، لا تتوقفوا عند حد ، كونوا أنذالاً بمعنى الكلمة ، تملكون الكثير من الأنذال ، اسألوهم وسيخبرونكم ، أريد أفعالاً يندى لها جبين الشيطان نفسه ، لا تتوقفوا عند حد .. في داخلكم الكثير من الدناءة .. ابحثوا عنها .. استخرجوها من أعماق صدوركم .. لا يخلوا بشرٌ من الدناءة .. فقط المزيد من العمل وسيمتلئ الوادي .
عند الظهر زاره وفدٌ يمثل أنذال البلدة ، جلسوا على بساطه ، تحدثوا معه ، عرضوا عليه معاصيهم ، نذالتهم وطبعهم الخسيس ، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال :
ـ مصيبة ، إذا كانت هذه نذالتكم فما أجدركم بخيبة الرجاء ، أنتم أنذال مبتدئون وأنا أشعر الآن بخجلٍ لا مثيل له .
تلك الليلة لم ينم احد ، انه التحدي الكبير وعلينا أن ننجح الآن :
ـ الوادي يستصرخكم يا شباب البلدة ، شرفكم في خطر ، عما قريب سيقبل الشيطان وعلينا أن نصنع الآن ما يليق .
تعالت الصرخات ، واشرف مختارنا شخصياً على حملة شحذ الهمم الواسعة النطاق ، وطيلة أسبوع كامل عقدت مئات الاجتماعات بين الرجال والرجال ، والنساء وبعضهن ، والأطفال والأطفال ، كلهم تحدثوا عن أروع ذنب يمكن أن يملأ وادياً واسع الأرجاء .
 انتهى الأسبوع الحافل وقد تحولنا إلى سفلةٍ حقيقيين ، فقدنا براءتنا وهدمنا كل صرح للخير في صدورنا ، هتكنا الأعراض وأصبحنا زناةً وشهدة زور وعبدة شيطان و حثالة لا يُشق لنا غبار ، امتهنا كرامة الأمهات وبعنا شرف النساء وقتلنا براءة الأطفال ، واقسمنا بكل مقدس كاذبين ، كنا نصلى بلا روح ، ونسبح لله بألسنة تمتهن النفاق .
تعبنا من الذنوب ، أنهكتنا المعاصي ولكن الخبر المؤلم فاجأنا :
ـ لم نملأ سوى نصف الوادي فقط ، نحتاج إلى المزيد .
استغرقنا في النوم تلك الليلة وقد أكل اليأس أكبادنا وامتلأت أفواهنا بمرارة الهزيمة فالشيطان سيزورنا غداً والوادي لم يمتلئ بعد ، لكن الصباح اقبل إلينا بمفاجأة لم تكن تخطر لنا على بال .
كان الشيطان يقف مذهولاً يتطلع إلى الوادي المترعٌ بالذنوب فيما كان مختارنا يضحك ملء فيه ، لم تكن تلك معجزة بعيدة الاحتمال فقد اقترف مختارنا ذنباً لم يخطر لنا ببال :
ـ الأمر سهل يا أبناء بلدتي ، فعلتم كل ما بوسعكم ولم يمتلئ الوادي ، فكرت طويلاً واكتشفت ذنباً لو نقترفه بعد ، لم تبق إلا الخيانة ، لقد بعت البلدة بأسرها ومعها الوادي لجيراننا الأعداء ، صحيح أننا لم نعد نمتلك شيئاً لكن هذا الوادي اللعين قد امتلأ أخيراً ، أليس كذلك أيها الشيطان ؟!

* كتبت بالبيضاء عام 2007

ليست هناك تعليقات: