ذاكرة الأيام 5
1 :ملك العفة والزهد والورع
أمثلة مختارة من أداء وقرارات حيال الأزمات
من قبل حكام بعينهم في دولة بعينها
CHOSEN PATTERNS OF PERFORMONCE AND DECISIONS IN EVENTS OF CRISIS BY CERTAIN RULERS IN A CERTAIN COUNTRY
بقلم: إبراهيم السنوسي امنينه
لكل ملك أو رئيس أو حاكم أسلوب مختار يتبعه في أداء ما عهد به إليه من مسئوليات وواجبات وأخذها على عاتقه متحملاً بذلك تبعاتها ونتائجها مهما كانت، واستعداده وجهوزيته للمساءلة أمام شعبه وأمام ربه يوم اللقاء.
ومهما يكن من أمر، فإن الدول التي عنوانها " الديمقراطية " و "الشعبية " هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية والشفافية والعدل في حكمها لشعوبها، ومن هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر كوريا الشمالية، وليبيا 69 ، والجزائر دولة الجنرالات وواجهتها الـ Puppet الأراغوز "بوتفليتة"، وهي أقرب إلى الشمولية والتسلطية والفردية العسكرية منها إلى الديمقراطية.
ونروى هنا مارواه أحد رؤساء الحكومة الليبية السابقين في سياق حديثه بكل أمانة عن عفة ونزاهة وورع الملك إدريس ملكنا السابق رحمه الله، ونحن ننقله هنا بالنص وذلك لتعميم الفائده، فحدث قائلاً:
في ربيع عام 1962 استدعاني الملك إدريس رحمه الله وأبلغني أنه قرر السفر إلى الحج، وكانت الحكومة تستأجر كل عام من شركة ملاحة يونانية باخرة ضخمة تسمى ماريانا MARIANA لنقل الحجاج الليبيين، فسألني عن تكاليف ثلاث غرف بالباخرة، قلت له أن الدولة ستتكفل بمصاريف الحج، لكنه رفض مشيراً إلى أنه ذاهب للحج لنفسه وليس لليبيا ولذلك لابد أن يكون كل شئ على نفقته الخاصة.
وقال لي أن الخدمة التي يريدها من الحكومة هي أن تكون التقديرات دقيقة لا مجاملة فيها. وللحقيقة والتاريخ لم يطلب الملك إدريس منذ توليه الملك أي مبلغ من المال، إلا في حدود معاشه طبقاً للميزانية التي يقرها مجلس الأمة في إطار قانون الميزانية العامة للدولة.
إذن فقد كلفت وزير المواصلات بمهمة وضع التقديرات المتعلقة بتكلفة استئجار الباخرة، والتعديلات التي ستدخل على الغرف الخاصة التي طلبها الملك، وأبلغت جلالته بالمبلغ وأصر على أن يدفعه من حسابه الخاص، وفعلاً تم ذلك. وقبل سفره سلمني عشرة آلاف جنيه طلب مني تحويلها إلى سفيرنا في السعودية بالريال السعودي لكي يسلمها له في الباخرة عند وصولها إلى ميناء جدة، فاقترحت عليه أن تتولى السفارة الليبية هناك تسليم هذا المبلغ لكنه رفض فلبيت رغبته.
وهكذا غادر الملك إلى الحج يوم 3 مايو 1962، واحتفت به المملكة العربية السعودية احتفاءً مميزاً.
كان البوصيري الشلحي، وهو ناظر الخاصة الملكية، قد رافق الملك خلال الرحلة، وعند العودة اتصل بالرئيس جمال عبدالناصر لإيفاد مبعوث منه للترحيب بالملك حين تمر باخرته في قناة السويس، ودعوته لزيارة مصر. وبالفعل فحين وصلت الباخرة إلى مصر في طريق العودة إلى ليبيا عبر قناة السويس، جاء حسن إبراهيم، قائد السرب، وعضو مجلس قيادة الثورة المصرية، ورحب بالملك وقدم له دعوة باسم الرئيس عبدالناصر لزيارة القاهرة لمدة أسبوع، لكن الملك اعتذر بلباقة، إذ قال لحسن إبراهيم أنه عائد من الحج، ويفترض بعد أدائه للفريضة أن يعود إلى بلده، ووعد بتلبية الدعوة في وقت لاحق.
أنزعج البوصيري الشلحي كثيراً لاعتذار الملك عن تلبية الدعوة، وحيث وصل الملك إلى ليبيا وكنا في استقباله بميناء طبرق يوم 22 مايو 1962 بدا البوصيري الشلحي متجهماً، وفي حالة غضب شديد وأراد أن يخلق أي مشكلة للتنفيس عن غضبه، فافتعل مشاجرة مع صهره (زوج أخته) اللواء محمود علي بوقويطين – قائد قوة دفاع برقة آنئذ وحاول أن يعتدي عليه بالضرب، إلا أن بوقويطين كاد أن يسحب مسدسه ويطلق الرصاص على البوصيري الشلحي، لولا تدخل العقيد عبدالعزيز الشلحي شقيق البوصيري، وعملنا على تهدئة الموقف وقلنا له أنه لا يجوز خلق مشكلة أمام الملك.
وأقول الآن أنه ربما كان البوصيري يريد خلق المشكلة معي شخصياً لأنه كان يعرف أنني اعترضت على زيارة الملك لمصر في السابق. (أنتهى نص هذه الجزئية وهذا المثال من أمثلة مختارة).
يستشف القارئ من هذه الرواية لا سيما ما حدث في مطار طبرق عند استقبال الملك بعد عودته من الحج، أن هناك جفوة شديدة وغير مبررة بين رئيس الحكومة في ذلك الوقت وهو الراوي لقصة سفر الملك لقضاء فريضة الحج، وبين البوصيري الشلحي، ناظر الخاصة الملكية ونزاعهما على خلفيات كثيرة على رأسها العلاقة مع مصر، وهي قصة أخرى يطول شرحها سنتناولها في حلقة قادمة من ذاكرة الأيام – 5.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق