البريقة .. من المحراب !
الحاج سالم .. ستيني العمر ورع متأنق.. شخصية مركبة .. أعتبرها أنموذجاً أثرياً .. لم يأكل عليه الدهر بعد ولكنه شرب .. من جوانب عدة ..
صلد .. ومتماسك في كل الأحايين .. شديد المراس أو هكذا يبدو .. له عالمه الخاص خصوصية مطلقة .. في أفكاره وقناعاته وأرائه .
فعلى سبيل المثال البكاء نحيباً كان أو دموعاً كانت أو حتى عبرةً .. كل ذلك عنده معلم من معالم الأنوثة .. التي دخلت عالم الرجال في أطار عولمة الخصال ، وأنه لا يجب البتة أن يتحلى بها الرجال الخلص مهما كانت الملابسات والظروف ..هذه فلسفته في الحياة رغم انه ناعم المودة .. حريري العواطف..ينساب داخلك وينتشر بدفء المودة وصدق المشاعر.. فتتمني ان تطول تلك اللحظات التي لا تتكرر كثيرا خاصة في ايامنا هذه !
وهو يعتبر أيضاً أن كثرة الكلام مضيعة للوقت ، مجلبة للآثام ، وشرور اللئام ، وأن لسان الإنسان ما ينبغي له الحديث على إطلاقه إلا ذكراً لله .. وشكراً .. أو طلباً لحاجة بعينها دون استفاضة .. وغير ذلك لغو لا طائل منه ولا ضرورة له .
المهم الحاج سالم .. هو ذاته " خرّافة كما يقولون " قد تتطلب سرداً لمن يريد أن يعرف فيسمع ، ولكن ليس المقام مقام ذلك الآن .
بادرني الحاج سالم عند المغرب اليوم بندائه إياي الذي يحلو له دائما :
- يا ســـــيدي إدريس .
فتوجهت إليه فسلمت عليه .. إلا أنه هالني ما رأيت ..
عيونه الغائرة تبرق ممتلئة بالدموع .
اغرورقت لمجرد أن بادرني بالحديث ..
- قلت له متوجسا : خيراً .
- قال : اسمع ما نريد نحكي لك عنه ...
- قلت : قل إني إليك مستمعاً . ، . وكما يقولون كلّي أذان صاغية . متلطفاً معه ..
- قال : اليوم الشيخ الإمام اللي صلى بنا صلاة العصر عندما أتمها وقف بالمحراب وقال لنا : بعد مقدمة استهلالية معتادة ...!
أخوتي المصلين : هل علمتم عني زيادة في الكلام ، أو مبالغة في الحديث .
- فأجبناه " بما نعلم ": لا والله ...
وهو فعلاً ما عرفته إلا صادقاً .. بل ومتحرياً للصدق .
- فقال الشيخ : إن ما سأرويه لكم من المحراب قبل أخرج منه ، أو أن أغادره أريد أن يشهد عليّ الله فيه ، أنني لم أضف إليه أو أزيد عليه ولم انقص منه وإنما هو كما حدث .. وهو محض حقيقة .. لم تحسنها مدارج الصنعة والخيال . . فأعيروني أسماعكم من المحراب .
... .... .....
- قال الإمام :
أمس في جبهة البريقة
حدث أن أصيب أحد الثوار
إصابة بليغة ...
- قال سالم في نفسه ولنفسه .. :
وما في ذلك ..
كل يوم أو بضع يوم يحدث ..
إصابات وإصابات ،، لم تستدع كل هذه الجلبة .. ! ولم يذكرها الذاكرون فما بالك .. بمتحدث في المحراب .
- فاستطرد الشيخ :
وأضحى الثائر إثر الإصابة ينازع ..
وزملاؤه ورفاقه يحيطون به ..
من كل جانب وصوب
فلاحظ شيخ زائر لفصائل الثوار ذلك
فقدم إليهم مسرعاً ..
فرأى أن الفتى في النزع الأخير ..
الأمر الذي معه تعطلت لغة الكلام ..
... .... .....
فنظر الشيخ لرفقائه فصاحوا :
أن صابرا يموت ..
فتوجه الشيخ لصابر ليطلب منه ..
النطق بالشهادة ..
" يا بنى .. يا صابر أذكر الله .. "
" قل لا إله إلا الله .. محمدا رسول الله .. "
فلا يجد صدى لطلبه ..
فالفتى صابر لا ينبس ببنت شفاه ..
... .... .....
يعاود الشيخ المحاولة مرة ومرات ..
دون أن تتحرك شفتي صابر بالشهادة ..
والرفاق .. يحيطونه ويزدادون اقترابا منه ..
وعلى وجوههم حيـــــــرة واستغراب ..
... .... .....
ثم ...
تغادر الروح الجسد المنهك .. الذي مزقته الشظايا .. وأدمته الجراح .. صاعدة إلى بارئها .. !
... .... .....
فيضرب الشيخ كفاً بكف ... !
ثم ..
يغمض عيني صابر .. ويسبله .. !
ويسترجع :
" إنا لله وإنا إليه راجعون "
عـنـــــــــدها ...
عـنـــــــــدها ...
عـنـــــــــدها ...
يسمع صابر ينطق :
لا إله إلا الله .. محمدا رسول الله ..
فيهلل الرفاق .. ويكبرون .. وتدوي من بندقية احد الرفاق في سماء البريقة المدوية رصاصات الاستبشار ..
... .... .....
فيصيح الشيخ في رفاق الشهيد من الثوار :
ما بـــــــــــــــــالكم ...؟
فيرد أحد الرفاق :
سيدي الشيخ
أنا أعرفه من زمن
بعيـــــد ..
فهو .. صديق طفولتي
وجاري منذ ولادته ..
أي منذ عام 1994 .
فقد ولدنا في العام نفسه
إلا إنني اسبقه بشهرين ويزيد
وهو يا شيخ ...
هو ...
... .... .....
ولد .. أبكم .. أخرص
لا ينطق ولا يتكلم منذ ولادته
وأجهش الحاج سالم الصلد والصلب باكياً دون مؤاربة ..
وقال :
أليس .. في ذلك بشارة من البريقة ..
ولم يعقب ..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق