السبت، أغسطس 13

وجهات نظر وطنية ( بوعجاج )

  
من الثورة إلى الدولة – 2    


                                                                        
مفتاح بوعجاج




 ..... تكونت الدولة الليبية ونالت استقلالها الاول فى 24 ديسمبر 1951 فى ظل دستور شرعى عصرى لا تملكه كثير من الدول حتى اليوم، ولم يكن لديها ايرادا او مالا غير ما تفضلت به المؤسسات الدولية والمساعدات وايرادات تأجير القواعد وبعض النشاطات الزراعية والرعوية ونشاطات القطاع الخاص الوطنى التى نجحت بمساعدة الجالية الايطالية التى بقت فى ليبيا وكانت لديها حرفية عالية خاصة فى مجال الزراعة والصناعة. وبدأ اكتشاف وبيع النفط خجولا فى عام 1955 بكميات لا تتجاوز 17000 برميل وكان دخل الفرد بالرغم من قلة عدد السكان لا يتجاوز 35 دولار سنويا ولم يبدأ حقيقة فى بيعه بشكل تجارى الا فى بداية الستينات حيث وصلت الكميات المنتجة الى 100000 برميل.

استعانت الدولة الليبية بخطط تنموية وبدراسات اعدتها هيئات ومؤسسات دولية محترمة مثل مؤسسة دوكسيديس اليونانية للاستشارات الهندسية وتخطيط المدن المشهورة والتى استعانت بها حتى الولايات المتحدة الامريكية فى بعض اعمالها لتخصصها وشهرتها فى هذا المجال، لم يكن تخطيط المدن هو لمجرد اعداد مخططات البناء وتوزيع قطع الاراضى كما يحصل الان حيث غاب التخطيط العلمى الشامل وحل محله العشوائية وانما يشمل ايضا الخطط الاقتصادية من سياحة وصناعة وزراعة والخطط التعليمية والتنمية البشرية وغيرها من النشاطات البشرية طبقا لطبيعة المكان وقدرات وميول السكان وإمكاناتهم وأهداف وتطلعات الدولة بناء على خطط عامة يضعها مخططون إستراتيجيون بمشاركة خبراء من الدول المتقدمة مثل أمريكا وبريطانيا، وشملت تلك الخطط بناء الطريق الساحلى وربط البلاد بالكهرباء وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات والمدن الرياضية والبنى التحتية والبحث وتطوير مصادر المياه.

وجدت دراسة اعدتها تلك المؤسسة تحت عنوان (مخططات مدينة سوسة الساحلية الى عام 2000 وقد اعدت هذه الدراسة عام 1966)، اى ان الدولة كانت فى الطريق الصحيح لبناء مستقبل البلاد ووضعت خططا تنموية علمية نتائجها لا تزال ظاهرة الى اليوم حيث ان مبانى جامعات البيضاء وبنغازى وطرابلس ومعظم المدن الرياضية وخطوط الكهرباء الرئيسية والمستشفيات والمدارس تم التخطيط وبناء الجزء الرئيسى لها فى العهد الملكى والذى توقف معظمه بعد الانقلاب، وشجعت الدولة القطاع الخاص للاستثمار فى قطاع الاسكان مما جعل المساكن تزيد عن حاجة الناس فبقيت كثير من البيوت والشقق خالية وخاصة فى المدن، وكانت طرابلس وبنغازى من اجمل مدن البحر المتوسط واكثرها تنظيما ونظافة تتوفر بها وسائل نقل عام وبريد، كانت القمامة مصدر ثروة للقطاع الخاص وللبلدية حيث كانت تجمع القمامة من قبل شركات خاصة لتصنيع القمامة ( بدأت التجربة فى العاصمة طرابلس) وكانت تدفع مقابلها رسوما للبلدية وتصنع كسماد عضوى طبيعى للداخل وكان يصدر ايضا الى ايطاليا (سماد عكرة)، وبعد الانقلاب الذى صادر كل شىء بما فيها شركات تصنيع القمامة يتذكر الليبيون كيف كانت القمامة تملاء الشوارع والازقة وبعد ان كانت مصدر رزق للبلدية وللقطاع الخاص، اصبحت سببا لكثير من المصروفات العامة التى كان يتكفل بها القطاع الخاص علاوة على ما تسببه هذه القمامة من امراض.

وعموما كان واضحا اخذ الدولة بأساسيات صحيحة فى مبدأ التخطيط والرقابة والتوجيه كدور اساسى للدولة واحترام الملكية والجهد الخاص وتشجيع القطاع الخاص فى الاستثمار وتنمية جميع المجالات الاقتصادية مثل الزراعة والصناعة والاسكان والتجارة، استعانت الدولة الليبية بعد الاستقلال مباشرة بهيكلية ادارية استطاعت ان تكون ادارة محلية خدمية ممتازة على نظام ولايات،بلديات،متصرفيات او مديريات ثم تم تغيير ذلك الى نظام مخافظات بلديات متصرفيات او مديريات وذلك فى عام 1963 حيث تم الغاء النظام الاتحادى وتم انشاء 10 محافظات واستمر العمل بهذا التنظيم الادارى الجديد الذى كان يجمع بين تسهيل الخدمات واللامركزية بل وحتى حل الخلافات على الملكية والاراضى وغيرها داخل الادارة المحلية اداريا واجتماعيا وعدم تضخم القضايا فى المحاكم كما ساد بعد الانقلاب نتيجة لالغاء الادارة المحلية والفوضى والاسهال فى التشريعات، كان مبدأ الكفاءة هو الاساس فى الدولة الليبية لاختيار الموظفون فى الوظائف العامة وحتى وان كان للقبيلة تأثير واضح فى الانتخابات الشعبية واختيار النواب لعدم وجود وعى سياسى او احزاب وطنية (حتى وان ظهر الفكر الحزبى الا انه كان يتمحور حول الفكر القومى او اليسارى او الناصرى الذى لم يكن يهتم بالشأن المحلى قدر اهتمامه بتلك القضايا) لحداثة الدولة الا ان اثر القبيلة فى مؤسسات الدولة القانونية والدستورية والتعليمية والادارية كان ضئيلا وكان فى طريق الاضمحلال مع ازدياد النخب المتعلمة وترسيخ المؤسسات الرسمية مع اهتمام الدولة الواضح بالعملية التعليمية وكان جل ايراد الدولة رغم قلته يصرف عليها.

الاعلام والثقافة فى ليبيا المملكة حيث كان يسمى، كانت الصحافة الحرة هى الاساس حيث كان نقد الحكومة وادائها مسموحا به وكانت ميزانيات الدولة من مصروفات وايرادات بما فيها مصروفات الديوان الملكى رغم ضألتها تنشر فى بداية ونهاية كل سنه ماليه بناءا على حسابات ختامية للدولة، بل يناقشها مجلس الامة بكل شفافيه وعلى الملاء وبحضور من يرغب داخل المبنى.وانتشرت الدور الثقافية والمكتبات فى كل مكان مع توفر معظم الكتب والمجلات والمنشورات العربية والاجنبية ومجلات الاطفال، وتوفرت دور السينما والمسارح، وبدأت السياحه تزدهر تدريجيا مع حضور السياح من الدول المتقدمة التى تعتبر مصدرا ثراء ثقافى واقتصادى.

اتى الانقلاب المشؤوم، وبدأ تفكيك الدولة الليبية ابتداءا بألغاء الدستور والقوانين واعلان ما سمى (بالثورة الثقافيه) وحبس وقتل وابعاد المثقفون والتكنوقراط والاداريون الوطنيون فى الداخل والخارج وافساد العملية التعليمية ونهب الممتلكات الخاصة والاستيلاء عليها وتدمير الاقتصاد الخاص ونهب ممتلكاته وتخريب الجامعات وسجن وطرد وقتل خيرة الطلبة الوطنيون فى 7 ابريل من كل عام وافساد مؤسسة الجيش وحبس وقتل وابعاد خيرة ضباط الجيش الليبى، وانتقلت ليبيا من كونها دولة على الطريق الصحيح الى دولة الانقلابيين فى طريقها الى الفشل والدمار فى كل شىء واضمحلت الايرادات من النشاطات الاقتصادية الخاصة والعامة نتيجة لسوء وفساد السياسات الاقتصادية المبنية على ايديولوجيات فاشلة واصبح النفط مصدر الدخل الرئيسى، وسيطر النظام بالكامل على مقدرات البلد بسيطرته الفاسدة على قطاع النفط ومداخيله مع الغاء كل المؤسسات التخطيطية والمراقبة كمؤسسة ديوان المحاسبة ولم تعد للبلاد اية ميزانية ختامية يمكن من خلالها مراقبة الربح الخسارة او المصاريف او الايرادات واصبحت الخزينة العامة نهبا من الداخل والخارج، وتحولت ليبيا من دولة بالمفهوم العصرى الى بقايا دولة فاشلة بجميع المقاييس والمؤشرات، فأنخفض مؤشر نسبة زيادة السكان من حوالى 4% الى 1.4% وارتفعت نسبة البطالة بمعناها العلمى الصحيح الى حوالى 60% ( تعتبر نسبة 7% نسبة عالية فى الدول المتقدمة) وتحصلت على رقم قياسى فى الفساد الادارى والمالى حسب تقارير الشفافية والتنافسية العالمية، وظهرت مشكلة السكن مما زاد من نسبة البناء العشوائى وانهارت بقايا البنية التحتية وتلوثت البيئة وزاد التصحر ودخل الحشيش والمخدرات واصبحت تجارة لها حماتها داخل البلاد، وانهار النظام الصحى الوقائى والعلاجى وانتهى التعليم الحرفى الفنى واصبحت الجامعات تخرج فى كثير من اشباه اميين يحملون شهادات بدون محتوى وتم الاستهتار واللعب والتجريب بالتعليم الاساسى وذلك بأدخال عمليات تجريبية فاشلة للمناهج لا تتناسب مع قدرات المدرسون ولا الطلبة ولا تتوفر لها الامكانات المطلوبة ولذا اصبح التعليم طاردا وليس جاذبا ناهيك عن الفساد الادارى والاجتماعى نتيجة لان الوظائف لم تعد قصرا على الكفاءة او الحاجة وانما تحولت الى محاصصة قبلية او شللية تحولت الى دويلات داخل تلك الدولة الفاشلة وانقلبت المعايير فصارت دولة للاراذل والمتخلفون والسماسرة والانتهازيين والمنافقون وانسحب جانبا كثير من الشرفاء والوطنيون والخبرات الذين بقو احياء وتفرق شملهم فى الداخل او الى الخارج، واصبح الجانب الامنى الخاص بحماية النظام وليس حماية الدولة هو العقيدة التى تسير وتقاس وتساس بهاالامور فكان مدير الامن اكثر هيبة وخوفا ونفوذا من وزير،واصبحت اللجان الثورية الغوغائية هى حكومة الظل الفعلية بدون ان يكون لها اى قانون او ضابط يحكمها او يحاسبها،كان الفساد بنيويا من داخل بنية النظام نفسه وتركيبته وكل من كان يدعو للاصلاح بدون تغيير تركيبة وايديولوجية النظام كان اما متجاهلا هذه الحقيقة لاسباب كثيرة منها الجهل والانتهازية او بدعوى ان الكلام عن الاصلاح كان خطوة لتقويض النظام من الداخل ولم يكن هناك حل اخر.

للحديث يقية.

ليست هناك تعليقات: