الطغاة لا يموتون إلا بطريقتهم
القاء المحاضرات على شعب ثائر شيء حلو. وتقديم النصائح، لسّه، أحلى بكثير. فطالما انك تقف خارج المعمعة، وتقدم نفسك كشاهد حكيم على ما يجري، فمن الطبيعي أن تجد نفسك تتصرف كخبير ألماني!
هل كان يمكن للثوار الليبيين أن يجدوا سبيلا "أفضل" للتعامل مع العقيد القذافي عندما ألقوا القبض عليه؟ هل كان بوسعهم ألا يقتلوه؟
أولا، ليبيا ليست سويسرا. انها بلد أسهمت 42 عاما من الهمجية القذافية في جعله بعيدا كليا عن "الأتكيت" الديمقراطي.
ثانيا، القانون شيء، والعدل شيء آخر. وليبيا، كما حكمها القذافي، بلد من دون قانون. فهل كان يمكن لبلد لم يعرف القانون، أن يتحول، في غمرة الثورة، الى دولة قانون؟ ألا يجدر بالمرء أن يسأل: من أين؟ وكيف؟ وبناء على أي مقدمات؟ واستنادا الى أي أسس؟
ثالثا، العقيد لم يقتل معارضيه إلا بهذه الطريقة. بل وظل يعتبرهم "كلابا ضالة" لسنوات طويلة قبل أن يقوم بتطوير نظريته الثورية ليقول انهم "جرذان" وانهم يستحقون السحق والمحق "بلا رحمة". والمدلول الوحيد لانعدام الرحمة هو التحريض على أبشع أنماط القتل. والأمر لم يكن مجرد تهديدٍ، أو كلامٍ منفعلٍ وعابر. لقد كان ممارسة يومية. الآلاف ممن نعرفهم، والآلاف ممن لا نزال لا نعرف مصائرهم، قتلوا على الأرجح كـ"كلاب ضالة".
رابعا، إذا سقيت شعبك من كأس، فلماذا، ووفقا لأي عدالة، يجب أن يسقيك من آخر؟
خامسا، لا يمكن أن تضع العربة أمام الحصان وتقول له اركض. لن يركض. وعلى هذا الأساس، لا يمكن قتل العقيد بطريقة ديمقراطية وقانونية إذا لم تكن هناك (في الأصل) ديمقراطية ولا قانون. الديمقراطية ودولة القانون ما تزالان مجرد افتراضات ونوايا، في بيئة لم تترك فيها همجية العقيد إلا الغضب والمرارة والقسوة.
سادسا، حتى الخبير الألماني لا يتصرف ببرود، وعقلانية، إذا ظلت مدينته تُقصف على مدى خمسة أشهر أو ستة، أو إذا كان المرتزقة يستبيحون النساء فيها، أو إذا ظل بلده منهوبا من قبل عصابة، أو إذا كان جيرانه وجيران جيرانه اختفوا في سجون لا يعلم بها أحد. سوف ينزع القفاز المخملي للمثقف الديمقراطي، ويرتدي الخوذة ويخرج ليقول: دعوني أرى أين يوجد هذا السافل لأقتله بيدي.
سابعا، وأنت في حرارة المعركة..، وأنت لا تعرف ماذا سوف يصادفك على الطريق،.. وأنت لا تدري ماذا يمكن لأنصاره أن يفعلوا لإطلاق سراحه،.. وأنت إذ خسرت واحدا من أبنائه بعد اعتقاله،.. وأنت لا تتحكم من أرض المعركة إلا بالمتر الذي تقف عليه،.. وأنت لا تجد حولك، فوق فوضى الأربعين عاما، إلا فوضى العنف،.. وأنت لا ترى إلا الموت الذي زرعته كتائب العقيد في كل مكان،.. وأنت تخوض قتالا عشوائيا، في ثورة شعبية عفوية لا نظام فيها ولا ضوابط،.. وأنت لا تخوض قتالا بجيش يمتثل لأوامر، بل بمليشيات تعمل بالهمّة،.. فبأي عقل تستطيع أن تلقي القبض على العقيد ولا تقتله؟ وإذا كنت لا تملك أي ضمانة بانه لن يفلت، فهل تتركه حيا؟ وإذا أفلت، في غفلة من الفوضى، فهل كنت ستجد نفسك ديمقراطيا عندما يعود ليبيع عليك عنترياته؟ أم أنك ستلعن أبو الساعة التي لم تطلق فيها الرصاص على رأسه؟
لأسباب مختلفة تماما، كوميدية بالأحرى، تتعلق بالزعيم المسخرة الذي انتهى لا يربط جملتين على بعضهما، كنت أتمنى لو يتم القاء القبض على القذافي ومحاكمته بهدوء، وبأسلوب تتقطر العدالة منه تقطيرا. ولكن وأنت ترى، أن طابور العقيد الخامس يتربص بالثورة ليس من أبناء عمومته الذين هربوا بالمال، وصاروا ديمقراطيين، يا محلاهم، فحسب، بل من داخل الثورة نفسها، من أناس تسللوا إليها وأيديهم لم تجف بعد من دماء الضحايا، فهل كنت ستتركه ينعم بأي فرصة لإدارة المعركة من خلف القضبان؟ هل كنت ستجد أي متعة في أن تتركه يرغي ويزبد ويهذي؟ هل كنت ستأمن على الثمن الذي تم دفعه من أجل القضاء على نظامه؟
لقد كان من حكمة القدر وحده أن يُقتل القذافي، لكي تطوى بموته الصفحة.
لقد كان ذلك هو الخيار الأمثل لبدء صفحة جديدة، ولكي ينظر، حتى أنصار القذافي، الى أنفسهم كأفراد لا كقطيع يسترشد بقائد ملهم، وأن يتجهوا الى بناء ليبيا جديدة، بدلا من الجرجرة والعرعرة بين الماضي والمستقبل.
الجرجرة والعرعرة ليست من دون ثمن. وإذا كان من ثمنها أن يقع عشرة ضحايا إضافيين، فإن طي الصفحة أفضل.
القذافي لا يستحق أن يموت بسببه أحد.
الذين يلومون ليبيا على انها لم تكن سويسرا ساعة إلقاء القبض على القذافي، يجب يعطفوا علينا بالنظر الى الواقع.
دكتاتوريات القسوة لا تنتهي من دون عنف. فكيف بدكتاتورية عنف وهذيان وفوضى؟
عندما ينتفض شعبك عليك، فانه لن يدعك ترحل دون أن يجعلك تعرف!
وعندما تحكم بقسوة، فلا تبكي، إذا حُكم عليك بقسوة.
وعندما تقتل البشر مثل الكلاب، فليس كثيرا عليك أن تموت مثلهم.
شيء من عدالة الواقع هو ما سوف يشكل قدرك.
لقد كان الإيطاليون أكثر تقدما عام 1945 من الليبيين اليوم، ولديهم دولة مؤسسات ذات تاريخ، ولكنهم بطريقة عادلة تماما قتلوا موسوليني. أعدموه، وعلقوه من رجليه أمام محطة بنزين في ميلانو وتركوا الجمهور يركله ويقذفه بالقنادر.
لا يوجد قانون يسمح بذلك. ولكنه عدل!
في أحدى خطبه الشهيرة، قال موسوليني لشعبه: "اتبعوني كلما تقدمت بكم إلى الأمام.. أما إذا تراجعت فاقتلوني.. وإذا هُزمتُ فانتقموا مني وعلقوني من ساقي".
فهُزم وهرب، وكان له ما أراد.
وفي الكثير من خطبه حرض العقيد شعبه على قتل معارضيه كالكلاب الضالة، فقتل على نحوهم.
انظر الى التاريخ، على أي حال، وستجد أن الطاغية غالبا ما يقرر مصيره بنفسه. وهو لا يموت إلا بالطريقة التي يختارها للآخرين، غير مدرك أنه يختارها لنفسه.
وهذا عدل.
علي الصراف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق