في كتاب
" بعض من سير التعب "
" بعض من سير التعب "
أثناء قراءة مجموعة قصصية أو سردية ، قد تجد نفسك متورط
( محمد السنوسي الغزالي )* في كتابه ( بعض من سير التعب ) فقد صنف النصوص لنوع من السرد وهو ( الحكايات ) وفي الحكاية لا قواعد عامة ملزمة للكاتب أو الحاكي وللنص من حيث الالتزام بالزمان والمكان وتسلسل الأحداث حسب فترة زمنية محددة مع ملاحظة التزام الحاكي هنا في فترة زمنية محددة للبداية وهي فترة " الخمسينيات "من القرن الماضي ص 17 .
"أما الحكاية: (فهي تختلف عن القصة في تعدد الأحداث وتنوع الشخوص وتباين الأزمنة والأمكنة واتساعها اتساعا يخرجها عن إطار القصة مع احتفاظها بكل خصائصها.)
(وهي غالبا ما تكون صدى لروح الشعب تجسد أمانيه وطموحاته وتعكس روحه الاجتماعية وتلبي طلباته ورغباته الأخلاقية والثقافية والدينية.) "
بهذا التعريف الدقيق للحكاية " ليحي الصوفي " (1) نجد أن ما أراد له الكاتب أن يصل للقارئ المتابع لفحوى الكتاب قد وصل بكل ما فيه عبر وفوائد وكم هائل من الأخلاقيات التي نستخلصها من بين الحكايا .
ومن مبتدأ الكتاب ص(11) والتي يهدي فيها الكاتب الغزالي الكتاب لبعض الأشخاص الذي أثروا في حياته وأولهم ( والده ) ذلك الذي حمله هذا التعب ،ومن هنا نتبين من أين جاء اسم الكتاب " بعض من سير التعب " والذي قد نفهم منه أن بعض ما جاء في الكتاب قد يصنف ضمن نوع من أنواع السيرة الذاتية غير المباشرة ولا الممتدة وإنما تفهم من خلال الحكاية المنفصلة عن مجموع حكايا الكتاب ، ولو أنني أجد أن أكثر حكايا الكتاب تأخذ طابع "السيرة الذاتية الأقصوصة " أي أن الكاتب أعتمد على استرجاع بعض المواقف من سجلات الذاكرة وقام بسردها بتاريخ لاحق غير قريب نسبياً لزمن حدوثها وهذا ما أكسبها طابع القصة في بعض النصوص وطابع السرد في نصوص أخرى، ومن هنا من "مدخل" يؤكد الكاتب أن السيرة الذاتية حاضرة في الحكايا ،
" مدخل " ص 13 هنا معاناة الكاتب تتجلى بوضوح من خلال شكره لوالده على كم الأخلاق الحسنة التي علمه إياها في زمان مختلف حيث تسود أخلاق الغابات وتتردى القيم " فأي عبء يحمله من يتحلى بكريم الأخلاق وسط مجتمع يعج بتردي الأخلاق وسوئها " ؟؟ ...وعبر أسلوب سرد الأحداث عن طريق راوي لا يقول إلى ما يعرف عبر و" وجهة نظر " حسب لويوك (3) يبدأ الكاتب في سرده
" البدء " ص. 17 سرد لتاريخ ميلاد الحاكي يتصف بوصف دقيق للزمان والمكان وكأن الحاكي كان يتابع المشهد عن كثب ويعيش لجة الأحداث وتاريخ الميلاد رغم أنها رويت له بحكم المنطق المطلق ، ارتباط ذكرى ميلاده بوفاة والدته أثناء عملية الولادة بعد معاناة مع الألم من السفر وفرحة الوالد بقدوم ابنه وإغفاله من الفرحة التعب الذي ألم بالوالدة أثناء عملية الولادة تلك التي أودت بحياتها و أحدثت تغيير كامل في حياة الكاتب والتي تتم الإشارة لها بوضوح أحيانا وضمنيا أحيانا أخرى ضمن حكايا الكتاب ، ولا نغفل ارتباط ذلك التاريخ المشؤوم على الكاتب بعدة حوادث لاحقة حصلت منها موت عمه وزوجته وموت صديقه وللمفارقة مولد أحد أبناءه في نفس الشهر .
بعد هذا السرد الموجع المكتظ بالأسى يطالبنا الكاتب " الغزالي " بتحمله وتحمل إطنابه في الحديث والسرد ويقر بأن بعض الإسهاب الزائد يصيب القارئ بالملل ويدفعه لترك الكتاب مستدلا بمقولة للكاتب الناقد " محمد المالكي ....( دائما أطلب منكم أن تكونوا مثاليين وأنا مكتظ بالعيوب التي أرفض أن تكون فيكم ) ثم يعود مرة أخرى ليشكر والده بلوم على ما حمله من تعب ويكمل بعضُ من سرد خاص يوضح شخصيته وما جره عليه عشقه للحرف والكلمة من تعب قد لا يكون أقلها شح المادة وهذه وتأييداً لكلام الكاتب مكابدة تمييز الكتاب والأدباء العرب ..!!
"الدرناوية في المسار " ص 23 في هذه الحكاية نجد السرد الذاتي الخاص بالكاتب ونجد أيضا أن الكاتب رغم الفاصل الزمني الطويل بين وقوع أحداث هذه الحكاية وبين توثيقها لم يستطع أن يقول بأن الطفل قد أحب زوجة أبيه " وردة "رغم منحها بعض الصفات كسيدة تهتم بالنظافة والترتيب وإعداد الطعام ، هنا تبرز مشاعر الممتن لمعلمة أو مدبرة منزل أكثر من المشاعر التي كان يجب أن تربط هذا الطفل يتيم الأم بوالدة أو من يقوم مقامها ولو كانت زوجة أب ، وهنا يسهب الكاتب في بعض التفاصيل التي زخرت فيها ذاكرته .
هذه الحكاية نستطيع القول بأنها تقترب من كونها قصة تدور حول محور واضح وفكرة محددة وهي زوجة الأب " وردة " ، ثم عبر العودة بالزمن إلى ما قبل الحكاية الأولى تأتي " الولادة "
ولكن وكون الحكاية تميل للسرد أكثر منها للقصة فلا غضاضة من تقديم الزمن أو تأخيره وفق (جرارجنيت )" فزمن السرد لا يتقيد بتتابع منطقي، بينما يخضع زمن القصة للتتابع المنطقي للأحداث، وقد يسبق زمن السرد الأحداث بحيث يتعرف القارئ إلى وقائع قبل حدوثها " هنا مجمل السرد يكون على لسان راوي يصور حلم الطفل بحضن الخالة التي كانت تعامله بحب وحنان بالإضافة للتلميح الواضح بأن سعي الأب للزواج منها يعود لأكثر من سبب من بينها بكل تأكيد جمالها وتلك الابتسامة الساحرة التي تميزها والتي كانت تفتقد لها وردة زوجة الأب في حكاية " الدرناوية ...." رفض الخال للزواج من " حواء " بعد موت الجد الذي قبض مهرها ووعد الوالد فيها يورث الطفل الساعي لحضن أم خلق لم يكن له أن يعرفه في هذا السن لولا ظروفه الخاصة به وهو الحقد ، وللقارئ أن يتخيل الموقف ، وفي قفز عبر الزمن للكاتب جاءت
" الزهرة السحابية " هنا قفز الكاتب لمرحلة متقدمة عمرياً متجاوزاً سن الطفولة ليكتب عن مشاعر أول حب يطرق باب قلبه وللقارئ أن يميز جيداً اندفاع الحاكي وراء الجمال أو وراء قلبه والذي حسب ما هو واضح من السرد حب بطريقة مختلفة ربما كون الكاتب ما زال يتمسك بذلك التعب وتلك الأخلاق التي حمله إياه والده وهو ما أوقعه في شرك صديقة " زهرة " وقضم حلمه بتتويج ذلك الحب بالزواج كون صديقة زهرة ارتأت أن تحظى به كحبيب وربما كزوج مختارة أن لا تبلغ زهرة بما طلب منها ، لا أعلم إن كانت هذه الحكاية تدين الكاتب أم تدين بعض القيم المجتمعية التي دفعت رجل ليبحث عن وسيلة لإيصال مشاعره ؟؟!!..وعبر نفس الأسلوب اللا منتمي لتسلس زمني للأحداث يستمر الكاتب في سرده للحكايا التي يحفل بها الكتاب وفي
" صديق التعب " عودة بالزمن مرة أخرى لفترة سابقة لوقوعه بالحب في حكاية " الزهرة السحابية " وكأن الكاتب قد أراد أن يوضح للقراء أنه يعي جيداً حقه بعدم الالتزام الزمني المتسلسل في سرد حكايته فهو يتقافز بالحكايا فتارة هو يسرد حكاية من زمن الطفولة ثم الشباب ثم يعود مرة أخرى لفترة المراهقة وهكذا ، في " صديق التعب" عالم حواء يتجلى بوضوح حواء الضعيفة والقوية معاً ، حواء الباحثة عن الآخر لتستظل به ولو كان على أعتاب الشباب ، الثيمة الأخلاقية تتجلى بوضوح بعودة الكاتب للأخلاق ولجادة الصواب ولو كان عبر صديق يرعاه ويحميه من الزلل ، هنا لا يملك شخصاَ أن يقّوم إلا من كان مقّوم الأصل وأصابته انتكاسة طارئة تزول بمجرد وجود سبباً لزوالها، أطول حكايا المجموعة والتي يميل فيها الكاتب للإسهاب
" لؤلؤة كل الأزمنة " هي وحدها لو فكر الكاتب في كتابة رواية أو مسرحية كانت تصلح لتكون فكرة غير مسبوقة من حيث سريان الأحداث وغرابتها ، وفيها أيضا أعمل الكاتب حقه بالقفز الزمني متنقلاً بحرية تامة بين مراحل عدة شفاعته الوحيدة حقه من حيث الأصل وانفصال الحكايا عن بعضها البعض ، وفيها من حيث الأخلاق ما يثبت أن المؤمن قد يلدغ من نفس الجحر مرة ومرة ومرة ، فالكاتب لم يتعظ مما حصل له من صديقة " زهرة " ووقع في نفس الفخ ولو أنه هذه المرة من صديقه هو وباختلاف التفاصيل إلا أنه وقع في " مطب" التعب الذي حمله إياه أبوه عن طريق تلك الأخلاق التي تدفعه ليبحث عمن ينقل مشاعره لأنثى عشقها ، ربما خجلاً وربما لأن الحب عنده يعني الزواج والزواج يحتاج لمن يسير مع الشخص في طرائقه التابعة لمنظومة من العادات والتقاليد .
" أبو العذارى " هنا أيضا لجأ الكاتب إلى العودة الزمنية أو ما يعرف ( الفلاش باك ) وهذا واضح من توثيق الكاتب لمكان وزمان الكتابة وهو " لارنكا 1989 " ولا تخلو هذه الحكاية من ثيمة أخلاقية وخلق قويم غاب عن بال الشاب وقتها وحضرته بعد أن أصبح أبا لعدد من البنات وكأنه هنا يقول لنا المثل السائد بين العامة ( أخطب لبنتك قبل ما تخطب لأبنك ) رغم احتفاظي برأي الخاص هنا وعدم البوح به كون الموضوع غير مطروح للنقاش ، وفي الحكايا مثل :
" بيت مسكون بالبركة " و " أكل وشرب وسيقان " رغم الاختلاف الزمني والمضمون العام لكل حكاية إلا أنها تعالج ظواهر ففي بيت مسكون بالبركة تعالج مشكلة اجتماعية وجشع البعض وطمعه بالحصول على ما يشاء وفق شروطه ولو استخدم الخسة والنذالة ، أما أكل وشرب وسيقان فكانت تحفل ببعض السلوكيات الاجتماعية العامة سواء من وجهة نظر الصديق العاشق للسيقان أو تصرفات " حماته " والدة زوجته محدثة النعمة سيئة الخلق ، ويضعنا الكاتب في
" سرايا " أمام نص يصلح لأن يكون قصة ولو أنه أيضا جاء كسيرة ذاتية للكاتب ، لو حق لي التساؤل لسألت الإنسانية جمعاء أليس حياتنا قصة ؟؟!! ..أو رواية قد تفوق أحداثها الروايات الخيالية أحيانا ؟؟ .. فيها أعادنا الكاتب مرة أخرى لطفولته صاغرين متابعين لتسلسل الحكايا ونحن لا نملك إلا أن نقرأ ونعطيه عذراً لهذا التنقل الزمني وكأنه يطالبنا أن نتابع بشغب سرده لأنه على قناعة أن السرد المتتابع قد يوقعنا في فخ الملل والتخلص من الكتاب ، ومن ناحية مضمون الحكاية واضح أنه التضحية بالأضعف للتستر على الأقوى، وفي تركيز على معاناة
المرأة بكل فصولها جاءت "سبب " ، المرأة الضعيفة المغلوبة على أمرها ، لهذا السبب ومن أجل " سبب " وأمثالها يجب أن نكتب ونطالب الجميع بالكتابة لرفع الظلم عنها وعن أمثالها وتوفير حياة كريمة لهن ، هنا كان المشهد أقرب ما يكون للمسرح منه للسرد أو القصة ففيه التركيز على وحدة المكان والزمان .
أقفز عن عدد من الحكايا لأخوض في حكاية مختلفة نوعا ما ، " جريو الزلافات " حواء في المجتمعات المحافظة هل هي محافظة كما يدعي الناس ؟؟!! ..أو ليس ما يحدث خلف الأبواب المغلقة لا يعلمه غير من تسلل خفية أو بسماح من أهل تلك الأبواب له للدخول ؟؟..هنا كشف لنا الكاتب عن عالم حواء الخفي في هذه المجتمعات أسرارها ، خفاياها ، حتى تفكيرها عراه الكاتب ووضعه على طاولة التشريح عبر رحلته مع النساء كحارس أمين لهن في تنقلاتهن ، هذه الحكاية تصلح لأن تكون عمل روائي متكامل لو رغب الكاتب يوما في كتابتها بتفاصيلها الدقيقة ، وفيها أيضاً تنقل الكاتب برشاقة بين الفقرات مختصراً الكثير من الأحداث ، ولم يغب عن ذهن الكاتب توضيح العنوان وشرحه ليتسنى للقارئ أن يعيش معه اللحظة بكل تفاصيلها .
" إعادة الترتيب " عنوان يحمل الكثير بين طياته ، نشعر ونحن نقرأ العنوان بأن الحياة ما هي غير " كومة من الورق " أو ربما بعض الملابس في دولاب تم التنكيل بها ، هنا ربما كانت ستكون من أقوى الحكايا لو وضعت كخاتمة للحكايا وليس في معرض السرد ، ولكن الكاتب ارتأى لها أن لا تكون خاتمة السير ربما عنده وجهة نظر خاصة فيه وربما أيضاَ إمعاناً في استخدام حقه بأن لا يلتزم ترتيب زماني للحكايا، وفي طرح مختلف جاءت حوارية "فكرة "
نقاشية عارضة بين أنثى وذكر على قدر من الثقافة تنتهي بنهاية الحوار الذي يفضي بالراوي لإلغاء الفكرة ، هنا لو اختزل الكاتب الحوار كانت ستكون قصة قصيرة جداً ولكن السرد تمكن منه وأطال النقاش الذي أفضى لإفقادها عنصر القص الموجز .
وتعالج كل حكاية من حكايا " بعض من سير التعب خُلق أو آفة اجتماعية استفحلت في زمن سردها أو حدوثها فللأسف الشديد الفرق بين الزمنيين لم يكن ليحسن من وضع الأخلاق أو يكشف الستار عن أمل بإحداث طفرة أخلاقية تعدنا بالتطور أو التحديث النوعي لكم الأخلاق التي تتداعى أمام ناظرنا ونحن نقف مكتوفي الأيدي .
ومن الناحية الأدبية تغلغل السرد في بعض النصوص ليزيح عنها ستار الحكاية ويلبسها ثوب القصة بكافة أبعادها ، ومنح بعض النصوص صفة السيرة الذاتية الخالصة وكأنها نقلت من دفتر لليوميات ، يبقى ما لا خلاف عليه هو تميز الكاتب " محمد السنوسي الغزالي " بالسرد الحكائي والذي وإن لم يجد مريدين كثر له في هذه الفترة إلا أنه بالتأكيد سيجد الكثير لاحقا شأنه شأن القصة القصيرة جداً والتي بدأت في الازدهار رغم الاستهجان الذي واكب مولدها وشأن شعر النثر الذي أيضاً جوبه بالمعارضة في بداياته والآن أصبح له مكانة بارزة ومريدين وعشاق يتابعونه بشغف .
وللتوضيح وللأمانة الأدبية وجب أن نفرق بين الحكاية السردية التي جاء كتاب " بعض من سير التعب " مثال حي عليها وبين الحكاية الشعبية المتوارثة ، فالفرق بين هذا النوع الأدبي والحكاية الشعبية كبير جداً ولا رابط بين الاثنين لا من حيث الفكرة أو المضمون أو طريقة السرد .
قراءة في كتاب " بعض من سير التعب "..
(*) ابجدية الوطن نشرت قراءة عن كتاب بعض من سير التعب بالاستئذان من( صديق التعب وتعب الصديق )..
هناك تعليق واحد:
صباح الخير
اشكركم من كل قلبي على هذا الإهتمام..وفقكم الله..
إرسال تعليق