الخميس، نوفمبر 3

متابعات

م. ابراهيم فرج الفلاح  ( المنقولة ).


                        لا يا أيها الهيكل ..

تابعت - وربما كثيرون غيري – الحلقة الثانية من ثلاث حلقات كانت الجزيرة قد أعلنت عنها ليتحدث فيها السيد حسنين هيكل عن
المشهد الدولي في حلقة والثورات العربية في حلقة (ليبيا وسوريا واليمن) والثورة المصرية في حلقة !!
كنت متأهبا – وبكامل قواي العقلية – لأسمع ما سيقوله هيكل عن الثورة في ليبيا...
والسبب وراء انتباهي الشديد وحرصي على التركيز أنني عادة ما أجد صعوبة بالغة في تتبع تسلسل منطقي لما يطرحه هيكل وهذا واجهته في تتبعي لسلسلة الحلقات التي بثتها الجزيرة منذ فترة تحت عنوان "مع هيكل"..
ولنا في طريقة هيكل في الحديث وطرحه لما يريد أن يقول واستعماله للمفردات الانجليزية ... مقال نؤجله إلى فرصة أخرى .
ولنعد إلى موضوع الحلقة الثانية ..
فحوى حديث هيكل فيها عن الثورة الليبية يتلخص – بالقدر الذي أمكنني استيعابهفي النقاط التالية:
·     الثورة الليبية – على عكس الثورتين التونسية والمصرية – لم تبلغ مرحلة النضج .
·     عدم النضوج أدى إلى الاستعانة بالناتو .
·     الاستعانة بالناتو يلغي وصف ما حدث في ليبيا بأنه ثورة .
·     إذا لم يكن الليبيون ناضجين فلماذا أشعلوا الثورة ؟ وإذا كانوا " ناضجين " فلماذا استعانوا بالناتو؟
·     الظروف غير الناضجة هي التي أدت - في ليبيا – إلى هذا الكم الهائل من الدمار وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين ..
وللتدليل على ما يقول ضرب هيكل مثالين أحدهما أن " كل " أعضاء المجلس الانتقالي هم من أركان النظام السابق ( ماذا عن المشير طنطاوي في مصر مثلا ياسيد هيكل ؟) ، وثانيهما أنه يقرأ في "الجرانيل" (جمع جورنال) أن "الثائر" الليبي حينما يشاهد رتلا من عسكر القذافي يتصل بالناتو ليقوم الأخير بقصفه !! وكأنه يقول كفى الله المؤمنين شر القتال..
وقد استوقفتني كثيرا حكاية " النضج " هذه ، وأثارت في ذهني عديد التساؤلات ، فالسيد هيكل لم يحدد لنا مفهومه للنضج ، ولا عوامله، ولا درجاته، ولا مظاهره، ولا مآلاته.. ولا كيف يحدث "النضج" هل في نسق تراكمي وعلى نار هادئة أم في فرن من أفران صهر الحديد ؟
كما لم يوضح لنا مفهومه للثورة و"الثائر"..
هل يقصد السيد هيكل أن الظروف في ليبيا لم تكن "ناضجة" لاشتعال الثورة ؟
أم أن الظروف كانت "ناضجة" لكن الليبيين لم يقدروا على مواصلة الثورة ولذا استعانوا بالناتو ؟
وطالما لا نجد إجابات لهذه التساؤلات فليعذرنا السيد هيكل ونحن نطرح فهمنا "للنضج" المؤهل للثورة ومن ثم اشتعالها..
وهو يتركز في عاملين أساسين:
·     بلوغ الظلم والقهر والكبت وكل مظاهر الفساد والدكتاتورية درجة لا تحتمل ولا يمكن السكوت عنها .
·     إرادة صلبة لتغيير الواقع مهما كانت التضحيات وبكل الوسائل المتاحة .
ومظاهر هذين العاملين كانت واضحة جلية في المشهد الليبي..ولا ينكرها إلا متحامل..أو متغافل..أو غير متابع ..
فلم تبلغ مظاهر الظلم والجور والفساد والعسف والطغيان في أي دولة عربية معشار ما بلغته في ليبيا:
لم نشهد مثلا – في أي دولة عربية – المشانق تنصب لإعدام الطلبة في ساحات الكليات الجامعية جهارا نهارا ..
ولم نشهد بثا حيا على شاشة أي تلفاز عربي لمسلسلات الإعدام شنقا في شهر رمضان المبارك وفي لحظات الإفطار بالتحديد ..
ولم يحدث – في أي بلد عربي – أن أعدم رميا بالرصاص ما يقارب الألف وثلاثمائة سجين سياسي في ساعات..
ولم يبلغ فساد أي حاكم عربي درجة حقن المئات من أطفال بلاده بفيروس الايدز المميت ..
ولم نسمع – في أي بلد عربي – عن وجود إدارة مخابراتية مختصة بطمس "النجومية" حتى في كرة القدم !
ولم نسمع أيضا – في أي بلد عربي – عن وجود مخدع للرئيس مجهز بغرفة نوم فاخرة وحجرة عمليات كاملة التجهيزات أسفل إحدى المدرجات الجامعية يمارس فيه الرئيس نزواته الملعونة ..
وهذا غيض من فيض لما آلت إليه الأمور في ليبيا
يا سيد هيكل أليس هذا – وغيره كثير مما يشيب من هوله الرضيع – عاملا أساسيا للنضج الباعث للثورة ؟ أفدنا بربك..
أما العامل الثاني للنضج فهو إرادة الانعتاق والتوق للحرية والعدالة والكرامة وتحقيقها مهما بلغت التضحيات ...
ولعلك يا سيد هيكل – وأحسبك متابعا جيدا – لم تفتك شواهد الأشهر الثمانية الماضية على الأرض الليبية ..
فهنا كانت الأم التي زغردت وكبرت  وسجدت شكرا لله على استشهاد ابنها .. وهنا شاب قطع آلاف الأميال من المهجر ليشارك في الثورة .. وهنا كان المطرب الذي يعزف ألحان الثورة متنقلا من جبهة لأخرى وبندقيته على كتفه وجيتارته بين يديه .. وهنا كانت الفتاة التي تخيط رايات الاستقلال في غفلة من أزلام الطاغية .. وهنا كان الفتية يرسمون على الحيطان لاءات التحدي وجرافيتي ثورتهم ..
هنا كان التاجر الذي فتح مخازن بضاعته للثوار .. وهنا كان الضابط الذي انشق والتحق بالثوار .. وهنا كان الطيار الذي رفض قصف إخوانه من الثوار ..
وهنا الذي فجر جسده ليفتح ثغرة في جدار واحد من أكبر وأهم مراكز النظام العسكرية ..وهنا الطبيب .. والمهندس .. وهنا الفلاح .. والطالب .. والعامل .. والمدرس .. وهنا المرأة .. الأم والأخت والزوجة ... هنا الكهل والشيخ والصبي ..
كل هؤلاء – يا سيد هيكل – كانوا يثورون .. وكانوا لا يلتفتون إلى من يجلسون في الاستوديوهات المكيفة يحللون وينظرون ويؤكدون أن الحسم العسكري مستحيل في ليبيا .. كانوا حاملين أرواحهم على أكفهم لايلوون على شيء سوى النصر أو الاستشهاد.
كانوا ياأستاذ هيكل قبل الناتو .. وسيظلون بعد الناتو ..
أما قصة الاستعانة بالناتو و "ثوار الناتو" ، و "كعكة" النفط ، والتي صارت فزاعة تخيفنا بها أقلام وأحاديث البعض من أمثال السيد هيكل وعبد الباري عطوان ، فلدينا ما نقول حولها في أسطر أخرى ..
عاشت ليبيا حرة أبية .. وبالتأكيد "ناضجة"..

ليست هناك تعليقات: