ذاكرة الأيام – 1
تكملة الحلقة الأولى
((2-السنوسية والصراعات الدولية))
بقلم : ابراهيم السنوسي امنينة
لقد شكلّ تراكم الأحداث اللاحقة مرحلة حرجة من تاريخ السنوسية. في عام 1915 كان القتال في ليبيا قد توقف تماماً، بينما ظلت القوات الإيطالية تحتفظ بقدر من السيطرة المشوبة بالتوتر الدائم في مناطق طرابلس وساحل برقة الممتد من بنغازي إلى طبرق والجبل الأخضر. أما مواقع السنوسيين فكانت تنحصر في جزء بسيط من المنطقة الساحلية ابتداءً من شرق طبرق لغاية الحدود المصرية، بالإضافة إلى سلسلة من المعسكرات المسلحة المنتشرة في العمق من امساعد إلى إجدابيا مروراً بالطرف الجنوبي للجبل الأخضر. وكان دور تلك المعسكرات هو احتواء القوات الإيطالية داخل الحزام الساحلي، فلم يكن من المتيسر استخدامها في غير ذلك من العمليات. كما أن القوة المرابطة في امساعد تحت قيادة السيد أحمد الشريف نفسه كانت قليلة العدد ومهمتها حماية الشريط الساحلي الضيق قرب البردي من الوقوع في أيدي المحتلين الإيطاليين .
وفور نشوب الحرب بينهم وبين بريطانيا انصرف الأتراك إلى عمل استعدادات لمهاجمة المواقع البريطانية في مصر على أمل التمكن من تدميرها بواسطة هجوم مشترك من الجناحين الشرقي والغربي. فأوفدوا نوري بك (أخ أنور باشا) إلى امساعد في فبراير 1915 لغرض تنظيم الجناح الغربي بمساعدة جعفر العسكري (وهو ضابط شاب قدير من أصل عراقي انضم فيما بعد إلى صفوف الثورة العربية ضد حكم الأتراك ثم تولى رئاسة الوزارة في العراق وقتل هناك أثناء انقلاب سنة 1963). وقد لقيا استقبالاً فاتراً في البداية لأن السيد أحمد الشريف لم يكن يريد إقحام نفسه في معركة جانبية مع البريطانيين، كما أيده في ذلك السيد إدريس الذي كان قد أقام معهم علاقات ودية أثناء رحلته الأخيرة عن طريق مصر فنصح باتخاذ موقف محايد إزاء الحرب بين بريطانيا وتركيا. غير أن السيد أحمد كان في نفس الوقت رجلاً عنيداً ميالاً إلى القتال بطبعه شديد الإيمان بالواجب الإسلامي المتمثل في خوض معارك ضد الكفار. ثم أنه كان لا يريد أن يخذل صديقه القديم أنور باشا.
فلما دعا السلطان العثماني كل العرب إلى إعلان الجهاد ضد أعداء تركيا رأى السيد أحمد أن الواجب يفرض عليه تلبية نداء الحرب ضد البريطانيين مثلما سبق له الوقوف إلى جانب الأتراك في مواجهة الغزو الإيطالي. ولكن الفارق هذه المرة أن بريطانيا لم تكن تهدد بأي غزو للأراضي الليبية، كما أن سياستها تجاه السنوسيين كانت ودية وسلمية. ولهذا لم يعد واثقاً تماماً من صواب رأيه، فوجد نفسه في موقف الحائر المتردد. ومرّ الربيع والصيف من عام 1915 وهو لم يفعل أي شيء قد يستفز البريطانيين، بل إنه شجع السيد إدريس على محاولة التفاهم معهم بوساطة أسرة الإدريسي في مصر على أساس اتفاق يشمل تقديم معونة مالية مقابل الحياد في الحرب. ومن ناحية أخرى فإن ولاءه للأتراك دفعه إلى غض النظر عن الاستعدادات التي كان يقوم بها نوري بك لتجنيد وتدريب قوة عسكرية بقصد مهاجمة الانجليز. فلما تقاعس هؤلاء عن توفير المساعدات المادية التي تعهدوا بها، لم يجد حرجاً في قبول الأموال والإمدادات التي تقدم بها الأتراك بالتعاون مع حليفتهم ألمانيا .
ولعل من أسباب تأييده الضمني لتلك الاستعدادات التركية شعوره بالمسؤولية كوزير مفوض للسلطان في ليبيا واعتقاده الراسخ بضرورة الجهاد في سبيل الإسلام ضد أعداء الدين أياً كان جنسهم. وفي نفس الوقت بقي على الحياد متحفزاً ريثما تنجلي الأمور.
وطوال سنة 1915 ظل نوري بك وجعفر العسكري منهمكين في حشد وتدريب المتطوعين من رجال القبائل الذين كان معظمهم من أهالي برقة مع قلة من أفراد قبيلة أولاد على المنتشرة في صحراء مصر الغربية، حيث كان للسنوسية نفوذ واسع. وهذه القوة التركية السنوسية المشتركة تم تزويدها بأسلحة ألمانية كانت ترد من تركيا بطريق البحر. وفي نفس الفترة نظم نوري شن عدة غارات متفرقة على الحامية البريطانية في السلوم. ومع أن موقف السيد أحمد لم يكن قد تحدد على نحو قاطع، بينما استمر في المحافظة على علاقات طيبة مع ضباط الحدود الانجليز، إلا أن الدلائل أخذت تشير يوماً بعد يوم إلى ان الهجوم على مصر بات وشيكاً. وقد ذكر جعفر باشا العسكري أيام كان سفيراً للعراق في لندن وهو يسترجع أحداث تلك الفترة البعيدة أن السيد أحمد لم يكن راغباً حقاً في محاربة القوات البريطانية آنذاك، إذ كان يدرك أن عليه أن يتصدى للإيطاليين في طرابلس والفرنسيين في الجنوب، وإنما جرّته إلى دخول الحرب عدة عوامل أخرى منها الحاجة إلى المعونات المالية وتأثير الدعاية المضلّلة التي كان يبثها جواسيس ألمانيا وعملاؤها في المنطقة إلى جانب الضغوط القوية التي طفق يمارسها أنور باشا من مركز نفوذه الكبير في القسطنطينية (اسطنبول) .
وكانت الشراراة التي أشعلت فتيل الصراع هي حادثة "تارا" الباخرة البريطانية المسلحة التي نسفت بقذائف الطوربيد من غواصة ألمانية أثناء مرورها بخليج السلوم في بداية نوفمبر 1915. فقد أنزل الألمان بحارة السفينة البريطانية في البردي حيث سلموهم إلى الأتراك الذين أخذوهم أسرى وأرسلوا بهم تحت حراسة بعض القوات السنوسية إلى معسكر بير احكيم الواقع في منطقة صحراوية نائية. وكان من المستحيل تجاهل مثل هذا التعاون الصريح مع الألمان. ومن جهة أخرى بدأت تظهر في الإسكندرية بوادر قلق جدي لتوارد أخبار تنبئ بقرب حدوث هجوم تركي سنوسي تسانده الغواصات الألمانية التي كانت تجوب البحر بمحاذاة الساحل. وكانت تقارير المخابرات البريطانية تنطوي على كثير من المبالغة من حيث تقديرها لحجم القوات التي كانت موجودة بالفعل تحت تصرف الأتراك في ذلك الوقت، كما سرت شائعات عديدة أثارت مخاوف السلطات البريطانية من أن الصحراء كلها ربما تهّب عن بكرة أبيها لو دعاها السنوسيون للجهاد في صف تركيا.والحقيقة أن القوات التركية المرابطة على الساحل لم تزد قط عن نحو ألفين أو ثلاثة آلاف رجل، بينما كان جلّ المعسكرات السنوسية مشغولاً تماماً بمواجهة قوات الاحتلال الإيطالي في برقة. ولكن المجهول دائماً يوحي بالخطر، خصوصاً وأن السنوسيين اشتهروا بأنهم محاربون أشاوس لا يهابون شيئاً في سبيل العقيدة. وكان من الجلّى أن تأثير السنوسية يمكن أن يلهب حماس أعداد لا حصر لها من بدو الصحراء الأشداء لغزو وادي النيل فينقضوّن على مصر الغنية القريبة المنال بدافع تختلط فيه الغيرة الدينية بالطمع في الغنائم. أما الاحتمال الأضعف نسبياً، وأن لم يكن مستحيلاً،فهو أن السنوسيين قد يثيرون موجة من الشعور الديني تجرف حتى الفلاحين المصريين المسالمين نحو دعوة الجهاد تحت راية الإسلام. بل جاء في الأخبار أيضاً أن السلطان على الدينار، سلطان دارفور، ربما ينضم إليهم هو الآخر ( وكان يتلقى أسلحة من الأتراك عن طريق السنوسيين، ثم هزم وقتل أثناء معركة مع بعض القوات البريطانية المتواجدة بالسودان في نوفمبر 1916). وكل تلك المخاوف التي ضاعف من حدتها تهويل أجهزة المخابرات أدت إلى تمركز جيش بريطاني قوامه ثلاثون ألف جندي للدفاع عن مصر وحدها في فترة من أدقّ مراحل الحرب العالمية الأولى .
وكانت المهمة العاجلة التي شغلت السلطات البريطانية حينذاك هي اتخاذ احتياطات كافية لدرء الأخطار المحدقة بالحدود المصرية. ولهذا فإن المفارز المصرية الصغيرة المكلفة بأعمال خفر السواحل في السلوم وسيدي براني تم سحبها إلى مرسى مطروح حيث تجمعت بسرعة خلال شهر نوفمبر قوات الحدود الغربية بقيادة الجنرال والاس، وكانت تضم لواءين مختلطين أحدهما من سلاح الفرسان والآخر من المشاة ووحدة من سلاح المهندسين بالجيش المصري وقافلة التموين التابعة للفرقة الاسترالية الأولى. وفي نفس الوقت تقدمت القوات التي كان يقودها الأتراك فاحتلت سيدي براني ثم واصلت زحفها باتجاه مرسى مطروح،وكان قوامها حوالي 2500 رجل منهم 250 من جنود الجيش النظامي التركي والبقية من أفراد القبائل السنوسية الذين دربهم نوري باشا وجعفر العسكري وتزودوا بالبنادق الألمانية فضلاً عن ثمان مدافع جبلية وعشر رشاشات. أما القوات البريطانية التي تصدت لهم بمرسى مطروح فقد كانت هي الأخرى مكونة من نحو 2500 جندي منهم 500 من سلاح الفرسان.
ودارت المعارك على شكل سلسلة من المناوشات بين كثبان الرمال القريبة من الساحل، وكانت خسائر الجانب البريطاني طفيفة نوعاً. وقد جرى أول اشتباك بين الجانبين عند وادي صنب على بعد أربعة أميال غربي مرسى مطروح، ولم يسفر عن نتيجة حاسمة. ثم وقعت بعد ذلك اشتباكات أخرى في وادي ماجد وفي منطقة حلازين خلال شهري ديسمبر 1915 ويناير 1916 هزم فيها العرب فأرغموا على التقهقر. وكانوا في كل تلك المعارك يقاتلون بثبات وإصرار، متقدمين في تشكيلات مفتوحة وهم يطلقون النار من خلف ساتر أثناء زحفهم، مما يشهد بكفاءة جعفر العسكري الذي أشرف على تدريبهم. أما المعركة الفاصلة فقد دارت رحاها عند العجاجية على مسافة 15 ميلاً في جنوب شرقي سيدي براني بتاريخ 26 فبراير 1916. وكانت القوات التركية السنوسية البالغ عددها 1600 رجل قد تحصنت في موقع دفاعي جيد بين التلال الرملية وفي حوزتها ثلاث مدافع جبلية وخمس رشاشات. إلا أنها هوجمت من الجانبين بقوات تفوقها عدداً فأجبرت على الانسحاب حيث تعرضت لهجوم فرقة من سلاح الفرسان ألحقت بها في النهاية هزيمة نكراء. وكان ممن شهدوا تلك المعركة دوجلاس نيوبولد (الذي منح لقب سير فيما بعد وأصبح وزيراً للشؤون المدنية في حكومة السودان، وتوفي سنة 1946). وقد وصف الموقعة بقوله :
" ... كانت الفرقة مؤلفة من 170 فارساً يرافقهم حمل من المجاريف وطباخ وبيطار. وقد اخترقوا صفوف القوات السنوسية تماماً حتى المؤخرة، وسقط منهم ستون قتيلاً معظمهم أصيبوا من الخلف برصاص بعض القنـّاصة العرب ممن تظاهروا بأنهم موتى على أرض المعركة".
وقد وقع في الأسر جعفر العسكري بينما تمكن نوري من الهرب من فلول القوات التركية ثم استقل سفينة نقلته من البردي إلى تركيا مباشرة. واستمرت مطاردة المقاتلين العرب حتى توغلوا في الصحراء حيث تكبدوا خسائر كبيرة في الأرواح، وقدرت خسائرهم عموماً بنحو خمسمائة قتيل وأربعين ألف طلقة من الذخيرة وستين رأساً من الإبل المحملة بالتمور استولى عليها البريطانيون.
وانتهت بذلك الحملة الساحلية، فعاد البريطانيون إلى احتلال السلوم في مارس 1916، كما تم إنقاذ الأسرى من بحارة السفينة "تارا" (وكانوا يعيشون على أكل القواقع كقوت رئيسي وهم في الأسر!) . وقد تمكن من إنقاذهم رتل صغير من العربات المصفحة بقيادة دوق وستمنستر، الذي انطلق في عملية جريئة قطع خلالها مسافة 120 ميلاً عبر الصحراء إلى بير احكيم وكانت نقطة أمامية منعزلة لا يوجد بها غير اثنين من الآبار الرومانية القديمة وضريح لأحد الأولياء وحصن تركي متهدم. وأقبل بدو الصحراء ممن كانوا قد انضموا إلى قوات نوري، فاستسلموا للبريطانيين بأعداد كبيرة تحت وطأة المجاعة التي بدأت تفتك بهم. وبعدئذ عادت القوة البريطانية إلى الإسكندرية بطريق البحر تاركة وراءها في السلوم حامية عسكرية تتألف من كتيبتين وسريـّة من جنود الهجانة وبعض المصفحات والطائرات الخفيفة .
وفي غضون ذلك كان السيد أحمد قد شرع، بعد تأخر وتردد طويلين، في تنفيذ المهمة التي أسندتها إليه القيادة التركية العليا، وهي احتلال الواحات المصرية الواقعة غربي نهر النيل ومهاجمة وادي النيل في بعض المناطق غير الحصينة جنوبي القاهرة. وكانت تلك الحملة، وعلى رأسها السيد أحمد في زي قائد تركي، تضم حوالي 500 من رجال القبائل السنوسية وترافقها أمتعة كثيرة جداً كان من بينها سرير مزدوج على شكل هودج تحمله الجمال. وبعد مسيرة بطيئة قطعها على عدة مراحل انطلاقاً من الجغبوب إلى سيوة ومنها عبر الصحراء إلى واحة الفرافرة ثم البحيرة، وصل جيش السيد أحمد إلى واحة الداخلة على مسافة 170 ميلاً تقريباً غربي النيل حيث قضي صيف عام 1916. ورغم أن الحملة باءت بالفشل الذريع، إلا أنها مع ذلك نجحت في تحقيق أهداف الاستراتيجية التركية التي كانت ترمي إلى انشغال أكبر عدد ممكن من قوات العدو بمهمة الدفاع عن وادي النيل بحيث يخفف الضغط عن القوات التركية المحاربة في منطقة قنال السويسالحلقة القادمة :
عودة لسيرة الادريس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق