الطريقة السنوسية: الفكر .. الانتشار .. والجهاد
بقلم : ابراهيم السنوسي امنينة
3- الحرب الفرنسية ضد السنوسية
قبل أن يبدأ الفرنسيون حربهم ضد السنوسية مهدوا لها بحرب دعائية مركّزة في جرايدهم قصدوا منها تأليب الرأي العام الأوروبي على السنوسية وزعيمها زاعمين أنها تعادى النصرانية وتقاوم التبشير الصليبي وتتهيأ بالمعّدات الحربية لمقاتلة أهل الصليب. وقد كتب الحشائشى في جريدة الحاضرة التونسية مقالاً أنكر فيه ونفى هذه التهم. ويبدو أن المقال كان قد كتب قبل نشوب الحرب السنوسية الفرنسية وبعد مقتل رابح، ومما جاء فيه دفاعاً عن السنوسية : " ... وهم لا يخوضون في ما لا يعنيهم كالاشتغال بالسياسات فذلك عندهم كالمحرمات، وما أشيع عن السنوسي من أنه مستعد للحروب ويدّخر الأسلحة المتقنة يحصل عليها من أوروبا وأن يشيد الحصون بالصحراء ويصنع البارود وله عسكر وخيول مسوّمة ويبغض الفرنجة .. كل ذلك خرافات وأراجيف لا أصل لها ... ومن أجل ذلك قلنا ولازلنا نقول أن الشيخ السيد المهدي t لم يكن منطوياً على معاداة أهل الصليب ولم يفكر يوماً واحداً في إيقاظ الفتنة النائمة " .
ويبيّن كاتب المقال سبب بروز هذه التهم فيقول بعد مدح "المهدي" ، وفي هذه المدة الأخيرة ظهر داع بنواحي بحيرة تشاد لشنّ الغارة وإثارة الفتن اسمه السنوسي وهو من أتباع "رابح" سلطان "برنو" الذي قتل في السنة الفارطه، وكانت له أخت اسمها "فاطمة" في عاصمة "رابح" المذكور، وهذا الرجل ليس هو السنوسي المترجم له، ولا شك في أن الاشتباه على أصحاب الجرايد من أنه هو المهدي السنوسي حصل من اسمه الذي هو محمد السنوسي .. فسدّد كتبة فرنسا للتنديد بصاحب الطريقة السنوسية.. وعلى كل حال فلا لوم على من غلط من جنرالات باريس ...
لأن هذا الإيهام تسرّب أيضاً لبعض الصحف الإسلامية نفسها مثل مجلة المنار فقد ذكرت هذه المجلة أن السنوسي المهدي له حرب مع الفرنساويين" وفي رأينا أن هذه الحرب الدعائية كانت مقصودة وليست نتيجة خطأ فقط، وذلك للتمهيد لحرب عسكرية، كان لا بد من إيراد مداخلة الرحالة الحشائشى التونسي، والذي اسمه وكتابه على قائمة المراجع وذلك لإضفاء البيئة الحقيقية والمناخ الواقعي لتلك الحرب وتقاطعات المصالح وتبرير الاعتداءات والتحالفات الاستعمارية وضرب طبول الحرب الدعائية للتمهيد لنشوب الحروب العسكرية .
بدأت الحرب عندما تقدم الفرنسيون صوب كانم في حملة مزوّدة بالأسلحة والمعدات الحديثة، وتهيّأ السنوسيون لملاقاتهم فوضعوا حامية كبيرة في مكان يسّمى "بير علالي" وكان على رأسها السيد أحمد محمد الشريف حفيد الإمام وإبن عم السيد إدريس "سليل الفاتحين" يساعده شيخ الزاوية محمد البرّاني. وحدث اشتباك بين الطرفين فأحرز السنوسيون بعض الانتصارات وردّوا الحملة أكثر من مّرة ثم تغّلب الفرنسيون بمعّداتهم وأسلحتهم الحديثة وانهزم محمد البرّاني في معركة دامية في يناير 1902م وسقطت "بير علالى" في أيدي الفرنسيين الذي هدموا زاويتها وبنوا مكانها قلعة حصينة .
وهكذا حدث الصدام الذي تجنبته الحركة السنوسية أكثر من نصف قرن وسيستمر هذا الصدام سنوات بين الفرنسيين والسنوسيين ثم بين السنوسيين والطليان في برقة .
وفي أثناء الاشتباكات الأولى بين السنوسية والفرنسيين في بير علالي اشتد المرض بالسيد المهدي ثم توفاه الله يوم الأحد 24 صفر 1320 هـ الموافق 2 يونيو 1902 في زاوية "قرو" في تشاد . واقترح أحمد الريفي نقل الجثمان إلى الكفرة وتم ذلك ودفن في زاوية التاج .
وهكذا انتقل السيد المهدي إلى رحمة الله وعمره في الستين، بعد أن عاش حياة مليئة أمضى معظمها في تسيير الحركة السنوسية، ولقد حاول بإخلاص أن يدفع بها إلى الأمام ونجح في محاولاته هذه إلى حد لا بأس به، كما حرص على أن يقتفي خطوات أبيه الإمام فتقّيد بأسلوبه وطريقته فكان عمله تتمّهً لعمل أبيه .
ويبدو من تاريخ السيد المهدي أنه كان يتمتع بصفات كريمة ويتحلى بشيم طيبة مع عقل راجح، وتقوى فائقة .
ولا بد لإتمام الكلام في هذا المقام، وهو ترجمة ابن الإمام، أن نسترشد بما كتبه المستر E.I. F DE CANDOL ، الذي عمل كسفير مفوض لحكومة صاحبة الجلالة البريطانية في برقة، وكانت تلك الفترة هي التي نشأت فيها صداقته مع السيد إدريس الذي أصبح ملكاً لليبيا فيما بعد وقد أنعمت عليه الحكومة الليبية بوسام الاستقلال في سنة 1952م. إذا يقول المستر دي كاندول : حدثت وفاة السيد المهدي على نحو مباغت قبل تعيين خليفة له في حين كان ابنه البكر محمد إدريس صغيراً لا يتعدّى الثانية عشر من عمره فاستقر رأي الإخوان على أن يتولّى ابن عمه السيد أحمد الشريف خلافة الطريقة نيابة عنه إلى أن يبلغ سن الرشد ، بينما مكث محمد إدريس في الكفرة يواصل بمدرسة زاوية التاج حيث ينكبّ على حفظ القرآن ودراسة الحديث والتفسير والشريعة والفقه والتاريخ وعلم الحساب .
وفي تلك الأثناء ظهر من أقصى الجنوب الغربي خطر محدق يتهدد وجود الحركة السنوسية برمتها فقد بدأ الغزو الفرنسي للأراضي التشادية سنة 1900 وكانت كل من انجلترا وفرنسا قد وقعتا وكانت كل من انجلترا وفرنسا قد وقعتا معاهدة سرية فيما بينهما في مارس 1899 وهي نموذج صارخ للمؤامرات والدسائس الأوروبية التي كانت تحاك آنذاك بقصد الاستيلاء على ممتلكات في القارة الإفريقية. فمقتضى تلك المعاهدة خصصت لفرنسا منطقة وسط السودان وتقع من بحيرة تشاد في الغرب إلى حدود دار فور شرقاً،مع أنها كانت في الأصل سلطنة مستقلة منذ أقدم العصور، في مقابل تعهد فرنسا باحترام المصالح البريطانية في السودان المصري. وعلى الأثر عقدت إيطاليا وفرنسا أيضاً اتفاقية سّرية في ديسمبر 1900 أطلقت يد إيطاليا في كل من طرابلس الغرب وبرقة التابعتين للإمبراطورية العثمانية آنئذٍ نظير اعتراف الحكومة الإيطالية بمصالح فرنسا في سلطنة المغرب المستقلة وقتذاك .
وهذه الاتفاقيات الرامية إلى اقتسام أجزاء من إفريقيا بين بعض الدول الأوروبية تعتبر أمثلة حيّة على نوعية المساومات الرخيصة ونظرة الاستهتار التي كانت سائدة في تلك الفترة والتي تجاهلت تماماً حتى السكان الأفارقة وحقوقهم في تقرير مصائرهم واختيار حكامهم بأنفسهم. وفيما يتعلق بوسط السودان زعم الفرنسيون أن الحركة السنوسية هي العقبة الرئيسية في طريقهم بدعوى أنها شديدة العداء للمسيحية مع أن هذا الاعتقاد الخاطئ الذي شاع استناداً إلى روايات بعض الرحالة المبالغ فيها كان ينطوي على تجاهل كامل لتأثير السنوسية السلمي والحضاري ويعزو إليها بدلاً من ذلك وجود تنظيم عسكري ونوايا لم تكن تريدها ولا تملكها في واقع الأمر. ولكي تسارع بالوصول إلى حدود منطقة النفوذ التي خصصت لها بموجب المعاهدة المبرمة مع عام 1899 بدأت جحافل القوات الفرنسية في التحرك شرقاً من قواعدها في جنوب الجزائر والنيجر وكان ذلك تقريباً في نفس فترة انتقال السيد المهدي إلى إقليم "قرو"، ثم كان الاستيلاء على "بير علالي" وهي مركز السنوسية في "كانم"، ومقتل شيخها "محمد البرّاني" سنة 1902 بمثابة ضربة موجعة للحركة السنوسية، وبعدها شرع الغزاة الفرنسيون في شن حملة لا هوادة فيها بغية القضاء على الطريقة السنوسية بالكامل داخل كل الأراضي التشادية الشاسعة وخارجها. وفي خلال مدة قصيرة لم تكد تتجاوز العشر سنوات أصبحت الحركة السنوسية في تلك المنطقة في حكم المنتهية، وكان إدراك مدى خطورة التهديد الفرنسي ولا سيّما عقب احتلال طرق القوافل المؤدية من "باقيرمى" و "النيجر" و "كانم" و "واداى" نحو ليبيا، هي السبب الذي حمل السنوسيين في آخر الأمر على دفن خلافاتهم القديمة مع الأتراك من أجل الوقوف معاً في مواجهة هذا الخطر المشترك .
ولقد تجاوزعدد الذين استشهدوا دفاعاً عن زاوية بير علالي المائة شهيد منهم ستون شهيداً من قبيلة الزوية بينهم الشيخ بوبكر قويطين الذي قالت والدته عندما سمعت بنبأ وفاته ورفاقه من قبيلة الزوية : (إنعنهم فدا لسياد اللى في علالى رقّدوا) .
وهذا البيت وتلك الأم العجوز يعكسان كل الحب والتضحية بالنفس والولد الغاليين في سبيل الوطن والسنوسيين ودعوتهم وعلى رأسهم في ذلك الوقت السيد محمد المهدي والد سليل الفاتحين محمد إدريس السنوسي .
وكذلك استشهد شيخ زاوية بير علالي سيدى محمد البراني الساعدي والشيخ يونس بدر والشيخ السنوسي خير الله العبد وشقيقه عبد الله والشيخ غيث سيف النصر والشيخ مصباح الحولي، كذلك استشهد الشيخ محمد بن عقيله شيخ زاوية "قرو" الذي جاء على رأس كوكبة من الفرسان المجاهدين في محاولة لإنقاذ زاوية "بير علالي" .
4- مرحلة السيد احمد الشريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق