ذاكرة الأيام – 1
تكملة الحلقة الأولى
ولانتباه الشخص الذي تطوع وحذف البيت الذي يقول : "حي إدريس سليل الفاتحين من النشيد الوطني" تابع سلسلة ذاكرة الأيام - 6
نتابع مذكرات الملك إدريس رحمة الله عليه، التي جاءت على لسانه، وكذلك نتناول عرض المشهد التاريخي لجهاد السنوسيين في سنوات الحرب العالمية الأولى بقيادة السيد أحمد الشريف والتعليق عليها من قبل Mr. E. F. Decandol الوزير البريطاني المفوض في ليبيا في كتابة "الملك إدريس عاهل ليبيا حياته وعصره" يقول صاحب المذاكرات :
((1- سيرة الادريس ))
في عام 1330 هـ (الموافق 1912م) بلغت سن الرشد في الكفرة، فطلب مني بعض الإخوان السنوسيين بالأصالة عن أنفسهم ونيابةً عن غيرهم أن أتسلم مسؤوليات المرحوم والدي من السيد أحمد الشريف الذي كان يومها يتأهب للرحيل إلى الجغبوب بناء على طلب أنور باشا حتى يكون على مقربة من المجاهدين. وكان ردي على طلب الإخوان هو أن السيد أحمد مشغول بالاستعداد للسفر، وأننا على حافة الحرب مع إيطاليا، فلا أرى من المناسب أن أستلم منه في وقت كهذا . ثم أنني أقدر خبرته الطويلة المجربة في إدارة شؤون الطريقة، ولكن متى استقرت الأحوال فسوف نلبي رغبتهم، ولا شك أن السيد أحمد سوف يوافق على ذلك . وسافر السيد أحمد إلى الجغبوب، بينما بقيت أنا في الكفرة عاماً كاملاً تدربت خلاله على تسيير الأمور المتعلقة بمسؤولياتي المقبلة. وفي تلك الأثناء تخلت تركيا عن البلاد لإيطاليا (بمقتضى معاهدة لوزان المبرمة في سنة 1912). وبينما كان السيد أحمد يحارب الإيطاليين، قررت أن أذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج ثم أعود لمساعدته . وبتاريخ الرابع من شوال (الموافق أغسطس 1913) غادرت الكفرة برفقة ثلاثة من الإخوان- هم الحاج محمد التواتي (ابن أحد مستشاري السنوسي الكبير) والحاج فرج والحاج على العابدية (وهو زعيم سنوسي معروف ولد سنة 1870). وكان معنا أيضاً شيخ إحدى الزوايا الثلاثة وثلاثة من الخدم، منهم واحد سوداني، بالإضافة إلى حداة الإبل. وكنت أركب فرسي، وتحمل أمتعتنا الجمال. وسرنا بطريق القوافل الرئيسي الذي يمر بمناطق طلاب وربيانة وبوزيمة وزيغن وأبو عشكة وبوطفل مؤدياً إلى جالو، فاستغرقت الرحلة إلى هناك واحداً وعشرين يوماً منها ستة عشر يوماً من السفر الفعلي، إذ كنا نسير ليلاً ونستريح بالنهار كالمعتاد أثناء الصيف. وقضينا تسعة أيام في جالو التي كانت مركزاً تجارياً هاماً ثم أخذت مكانتها في التدهور على أثر إغلاق طريق القوافل من الساحل إلى واداي. وبعدئذ واصلنا السير نحو الجغبوب مروراً بخربة وقطمر وترفاوي وعبد السلام، واستمرت الرحلة كلها ستة عشر يوماً منها ثلاثة عشر يوماً من المسير .
ومكثت بالجغبوب سبعة أشهر في بيت أبي. وكان المعهد الذي أسسه جدي هناك لا يزال مزدهراً. وفي شهر جمادي الثاني (الموافق لأبريل 1914) غادرت الجغبوب متجهاً إلى مصر مع نفس الجماعة وكذلك الحاج يونس العابدية الذي انضم إلينا في الجغبوب. وبعد مسيرة سبعة أيام وصلنا إلى الساحل عند مكان يسمى بقبق (بالقرب من السلوم) حيث شاهدت البحر للمرة الأولى في حياتي. ثم سافرنا إلى الضبعة (التي كانت في ذلك الوقت آخر محطة للسكك الحديدية المصرية من ناحية الغرب) ومررنا في طريقنا بمرسى مطروح حيث رحبت بي السلطات المصرية، كما الزوايا السنوسية في كل من سيدي البراني وشماس ونجيلة وأم الرخم وأبو هارون. ولدى وصولنا إلى الضبعة استقبلنا صالح الحرب، وهو ضابط مصري جاء مندوباً عن الخديوي عباس (أي عباس الثاني، خديوي مصر من 1892 إلى 1914)، ثم سافرنا إلى الإسكندرية بقطار خصوصي، ونزلت ضيفاً على الخديوي في قصر رأس التين. ولقيت ترحيباً حاراً من المصريين، فهم على الرغم من حيادهم رسمياً في الحرب مع إيطاليا كانوا يؤيدون إخوتهم المسلمين ويبذلون كل ما في وسعهم لمساعدة السنوسيين بإمدادات السلاح والمعدات الطبية. وفي ذلك الوقت كان اللورد كتشنر يشغل منصب المندوب البريطاني في مصر .
وبقينا في الإسكندرية تسعة أيام بانتظار باخرة بريد الخديوي إلى حيفا، ثم سمعنا أنها سوف تعّرج على ميناء بور سعيد فاستقلينا قطاراً خاصاً تفضل به الخديوي أيضاً لنقلنا إلى هناك حيث ركبنا الباخرة وأبحرت بنا عند الظهر في نفس اليوم. وكانت الرحلة مريحة وصلت بعدها إلى حيفا يوم 24 رجب فاستقبلني الوالي التركي استقبالاً رسمياً، وبعدها مباشرة سافرنا بقطار إلى المدينة يقوم بثلاث رحلات أسبوعياً وتستغرق رحلته ثلاثة أيام يمر فيها بعدة محطات رئيسية، وهي درعا وعمان وتبوك ومدائن صالح. وهو كان مريحاً رغم بطئه، ويضم ثلاث عربات للنوم وواحدة للأكل، كما وجدت به زريبة لفرسي .
وبقيت في المدينة خمسة عشر يوماً كان الجو أثناءها قائظ الحر، فداهمتني الحمى، ولذا نصحت بالانتقال إلى مكة لأن جوها ألطف قليلاً. ومع أن موسم الحج لم يكن قد حل بعد، إلا إنني امتطيت فرسي وانطلقت في رحلة المائتي ميل من المدينة إلى مكة، فقطعتها خلال أحد عشر يوماً من السفر الوئيد أثناء الليل والراحة في ظل خيمة بالنهار وبعد إقامة ثلاثة أيام بمكة نصحني البعض بالذهاب إلى مدينة الطائف الواقعة وسط التلال في جنوبي مكة، وكان الشريف حسين (أمير مكة الذي أصبح فيما بعد ملك الحجاز من عام 1916 إلى 1924) يمضي بها فصل الصيف مع ولديه عبد الله وفيصل .
وقضيت في الطائف 75 يوماً، بما فيها رمضان وشوال (الموافق لشهر يونيه من عام 1914). وكان جوها لطيفاً بالفعل، فاستعدت صحتي تماماً. وفي تلك الأثناء حدث اغتيال أرشيدوق النمسا في ساراييفو، واندلعت الحرب العالمية الأولى (بتاريخ 4 أغسطس 1914). وبعدئذ توجهنا إلى مكة لأداء مناسك الحج (في أكتوبر 1914)، ونزلت بالزاوية السنوسية في أبو قبيس. ثم انتقلنا إلى المدينة فاضطررنا إلى البقاء فيها مدة شهرين لانقطاع المواصلات بسبب الحرب. وكان قد انضم إلينا في مكة اثنان من عرب برقة المعروفين وهما رشيد الكيخيا وعلي العبيدي .
وفيما كنا ننتظر بالمدينة أثناء شهر نوفمبر قامت الحرب بين بريطانيا وتركيا، فحاول الأتراك المسيطرون على الحجاز أن يحملوا العرب على الوقوف في صفهم، كما أخذ البريطانيون في التقرب إلى العرب على نحو مماثل. غير أن الشريف حسين التزم موقف الحياد، متجنباً إعطاء أي رد مباشر على الدعوة التركية إلى إعلان الجهاد. وفي ديسمبر، عندما استأنفت القطارات رحلاتها العادية، سافرنا إلى حيفا حيث استضافنا الوالي التركي أبو شاهين. وهناك اكتشفنا أن الاتصالات مع مصر شبه مقطوعة تماماً والأتراك كانوا يتقاتلون قرب قنال السويس وكان البريطانيون قد أعلنوا الحماية على مصر لأن البريطانيين بعد خلع الخديوي عباس الثاني واستبداله بعمه حسين كامل الذي منح لقب السلطان.
ولما كانت هناك باخرة إيطالية تقوم برحلات منتظمة بين حيفا ونابولي عبر ميناء بور سعيد، فقد أرسلنا واحداً من جماعتنا لاستطلاع إمكانية السفر بهذا الطريق. وجاءنا رده مشجعاً، فحجزنا أماكن على الباخرة، غير أن القبطان قال أن لا يضمن السماح لنا بالنزول في بور سعيد، نظراً لأن السنوسيين كانوا حلفاء للأتراك وبالتالي فإننا نعد نظرياً من رعايا دولة معادية. ولكن العلاقات في ذلك الوقت كانت قد تحسنت نوعاً بين السنوسيين والإيطاليين الذين أخذوا يسعون إلى التفاهم مع السيد أحمد الشريف، فاتفقنا على دفع عربون لقبطان الباخرة بحيث يحملنا إلى نابولي في حالة ما إذا رفض البريطانيون أن يسمحوا لنا بالنزول في بور سعيد، ومن نابولي يدبر الإيطاليون أمر ترحيلنا إلى برقة متى حانت الفرصة.
وهكذا غادرنا حيفا في فبراير 1915، وقد اضطررت للأسف إلى ترك فرسي هناك لأن القبطان لم يجد لها مكاناً على الباخرة. وهي (أعني الفرس) كانت من سلالة برقاوية تربت في أرياف الجبل الأخضر، وكان قد أهداها إلى خليل البناني. وقد حملتني طول الطريق من الكفرة إلى مكة، ثم في طريق العودة كذلك، فتأسفت كثيراً لتركها في حيفا حيث ماتت بعدها بمدة قصيرة .
ولدى وصولنا إلى بورسعيد طلبنا من رفيقنا على العبيدي أن يسبقنا في النزول إلى البّر حتى رأيناه مرّ بسلام فتبعناه كلنا في زحمة الحجاج متظاهرين بأننا مصريون. وفور نزولنا إلى الشاطئ بعثنا برقيات إلى كل من السلطان حسين والجنرال ماكماهون الذي خلف اللورد كتشنر في منصب المندوب السامي البريطاني بمصر. وتلقينا منهما استجابة ودية، فتوجهنا إلى القاهرة في ضيافة السلطان حسين. وفي أثناء ذلك قمنا بزيارة لكل من الجنرال ماكسويل، قائد القوات البريطانية في مصر، والكولونيل كليتون، مندوب حكومة السودان المقيم بالقاهرة، فناقشنا معهما أوضاع العلاقات السنوسية الراهنة مع الأتراك والإيطاليين والبريطانيين. وأعرب الاثنان عن رغبتهما الأكيدة في أن نقطع علاقاتنا مع الأتراك ونؤيد البريطانيين في الحرب أو نبقى محايدين على الأقل .
وكان ذلك أول لقاء بيني وبين البريطانيين وخرجت منه بانطباع جيد عن سلوكهم الودي وقوتهم العسكرية. ولم يكن بوسعي أن ألتزم بأي تعهد نيابة عن السنوسيين قبل استشارة السيد أحمد الشريف أولاً. لكنني وافقت على متابعة الاتصال من خلال علاقاتنا بعائلة الادريسي في مصر، ووافقوا من جانبهم على تسهيل عودتي إلى برقة .
وبعد فترة إقامة قصيرة في القاهرة، ركبنا قطار الصباح إلى الإسكندرية. وفي نفس اليوم استقلينا باخرة لخفر السواحل وضعها البريطانيون تحت تصرفنا حتى أنزلتنا في السلوم، ومن ثم توجهنا إلى امساعد للالتحاق بمعسكر السيد أحمد الشريف. وكانت غيبتي عن برقة استغرقت عاماً كاملاً تقريباً .
(وإلى اللقاء في الحلقة التالية )Ü .....
الحلقة القادمة بعنوان:
السنوسية والصراعات الدولية بالمنطقة
السنوسية والصراعات الدولية بالمنطقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق