الطريقة السنوسية: الفكر .. الانتشار .. والجهاد
بقلم : ابراهيم السنوسي امنينة
4- قيادة السيد احمد الشريف
لقد كان السنوسيون دائماً يعتزون باستقلالهم لا يفرطون فيه وظلّوا حتى ذلك الحين يرفضون مجرد استقبال ممثلي السلطات التركية في الكفرة، ولكن بعدما تأّزم الموقف جدّياً بحلول عام 1908م رحّبوا برفع العلم التركي هناك إعلاناً للسيادة العثمانية واحتماءً بها، غير أن الأتراك في نفس الوقت كانوا مشغولين بمتاعب داخلية في بلادهم ولم يعد بوسعهم توفير قوات كافية للدفاع عن مثل تلك التخوم البعيدة. ومن هنا اضطر السيد أحمد الشريف إلى البحث عن وسيلة أخرى لإنقاذ الحركة السنوسية، بينما كانت مناطق "بورنو" وتبيستي بما فيها أقاليم "قرو" و "اوجنجا" قد وقعت بأكملها في أيدي الفرنسيين، فأرسل في طلب النجدة من اللورد كيتشنر بالقاهرة – ومنذ ذلك الحين كانت العلاقة بين بريطانيا والحركة السنوسية قد نشأت وليس كما يعتقد البعض ويشيع بأنها بدأت أثناء تواجد سيدي إدريس في المهجر بمصر في الأربعينيات – ورأت الحكومة البريطانية في حينها أن الكفرة تعد من ضمن المناطق الخاضعة لسلطان الإمبراطورية العثمانية، فتدخلت لمنع الفرنسيين في اللحظة الأخيرة إذ أن أحد الطوابير الفرنسية كان قد وصل بالفعل حتى منطقة "سارّة" التي تقع على بعد 320كم فقط جنوبي الكفرة. وفي سنة 1910م انسحبت القوات الفرنسية إلى بلدة "تكرو" التي اعتبرت من ثم نقطة الحدود الفاصلة بين أراضي ليبيا وتشاد .
وما أن نجا السنوسيون من تهديد الخطر الهائل في الجنوب حتى أحدق بهم في الشمال خطر جديد أكثر إلحاحاً من سابقه. فسعيا وراء حقها المزعوم في امتلاك منطقة نفوذ لها في ليبيا وضمان موطئ قدم على الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط – التي كان جزء كبير منها قد وقع في أيدي الإنجليز والفرنسيين فعلاً – قامت إيطاليا فجأة بإعلان الحرب على تركيا في سبتمبر 1911م ثم بادرت بإنزال قواتها في كل مدن طرابلس والخمس وبنغازي ودرنة وطبرق. وكان ذلك العمل عدواناً سافراً أثار سخط العالم الإسلامي كله، بينما لم ترتفع في أوروبا سوى القليل من أصوات الاحتجاج لأن سائر الدول الأوروبية الكبرى كانت عاكفة على القيام بأعمال عدوانية مماثلة في أجزاء أخرى من القارة الإفريقية .
أما تركيا التي كانت حينذاك غارقة في حرب البلقان حتى أذنيها فإنها لم تكن في وضع يمكنها القيام بأي عمل دفاعي فعّال في ليبيا ( خصوصاً بعد توقيع اتفاقية أوشى لوزان مع إيطاليا في أكتوبر 1912 – إدخال من الكاتب ) .
ولذا فإن مسئولية تنظيم المقاومة الليبية وقعت على عاتق الزعماء الوطنيين وحدهم بينما كان ينقصها التنسيق وكفاءة التوجيه .
وفي تلك الأثناء بعث السيد أحمد الشريف أوامره من الكفرة لحثّ السنوسيين على أن يهبّوا لمساندة الحاميات التركية في مناطق بنغازي ودرنة. وهكذا أثار رجال القبائل المحليّة حركتي مقاومة منفصلتين لا تنسيق بينهما في كل من طرابلس وبرقة، واستمرت المقاومة في السير على هذا المنوال طيلة فترة الكفاح الليبي ضد الطليان. وعلى الرغم من أن الحكومة العثمانية ظلّت عاجزة عن إرسال إمدادات عسكرية نظراً للحصار البحري الذي فرضته إيطاليا على سواحل ليبيا إلا أن كثيرين من ضباط الأتراك والمصريين استطاعوا التسّلل إلى داخل الأراضي الليبية حيث انضموا إلى القوات التركية الليبية المشتركة، وكان من ضمن هؤلاء الضباط الذين وضلوا طرابلس : فتحي بك، الملحق العسكري التركي في باريس، وحافظ عفيفي وهو طبيب صار فيما بعد سفيراً لمصر في لندن، وعبد الرحمن عزّام، أمين عام الجامعة العربية في وقت لاحق.
وبفضل تعاون المصريين الذين بذلوا كل جهد مستطاع لمساعدة المقاومة الليبية. وصل إلى برقة أيضاً عدد من أولئك الضباط كان من بينهم أنور بك الذي تولّى فيما بعد منصب وزير الحربية التركية ومصطفى كمال ( أتاتورك رئيس تركيا في وقت لاحق) وعزيز المصري وكانوا كلهم ينتمون إلى حركة تركيا الفتاة في ذلك الوقت .
وكان أنور بك قد نجح إلى حد كبير في كسب ثقة القبائل البرقاوية التي تمكنت بغاراتها المتتالية من تضيق الخناق على قوات الاحتلال الإيطالي وإرغامها على أن تلزم معاقلها الساحلية. وفي صيف 1912 أقنع السيد أحمد الشريف بالقدوم إلى الجغبوب حيث زاره هناك وأبلغه بأن السلطان قرّر منح الليبيين استقلالهم، كما حثه على مواصلة الحرب وحده وعدم القبول بأية شروط للصلح طالما بقى الإيطاليون في ليبيا . أما أنور نفسه فسافر بعدئذٍ إلى تركيا وكان مصطفى كمال قد سبقه إليها . ثم لم يلبث الأتراك أن توصلوا إلى تفاهم مع الطليان أسفر عن إبرام معاهدة لوزان بين الجانبين ( كما ورد في المداخلة السالفة ) . وقد نصّت تلك الاتفاقية المشبوهة على أن يسحب الأتراك قواتهم من ليبيا ويمنحوا البلاد حكماً ذاتياً كاملاً، فيما سمحت للسلطان العثماني بتعيين ممثل شخصي له في البلاد مع الاحتفاظ بسلطته الدينية على الأهالي . وكان السيد أحمد الشريف هو المفّوض الذي اختاره السلطان، وتفصيل ذلك أن أنور باشا حمل إلى السيد أحمد الشريف ذلك الأمر السلطاني الذي ينص على أنه أصبح نائباً للخليفة في إفريقيا كلها ويخّوله ما للخليفة نفسه من النفوذ المطلق مدنياً وعسكرياً، كما يعطيه حق إعطاء الرتب والنياشين والعفو عن المحكومين وكذلك التولية والعزل دون الرجوع إلى دار الخلافه .
وقد وكّل سيدي أحمد الشريف السيد إدريس السنوسي توكيلاً كاملاً في كل ذلك قبل مغادرته برقه عام 1918م. وقد حمل أنور باشا للسيد أحمد الشريف الكثير من الأوسمة والنياشين لمنحها لمن يشاء من مساعديه. وقد منح السلطان السيد أحمد رتبة الباشاوية من الدرجة الأولى وعدة أوسمة رفيعة منها الوسام العثماني الأول، كما منح السيد إدريس السنوسي نفس الوسام ونفس رتبة الباشاوية من الدرجة الأولى، ومنح رتبة الباشاوية لكل من السيد محمد عابد السنوسي والسيد رضا المهدي والسيد على الخطابي والسيد هلال والسيد صفي الدين وهم أبناء عم الملك إدريس – سليل الفاتحين – مع أوسمة رفيعة أخرى. وتولى السيد أحمد سلطته العامة باسم نائب الخليفة العثماني وقائد المجاهدين وقد وزّع الرتب والنياشين على معاونيه ونذكر منهم :
رتبة الباشاوية لكل من حسين بسيكري مع النيشان العثماني، والسيد أحمد بن إدريس والسيد أحمد العيساوي والسيد محمد على عبد المولى والسيد المرتضي فركاش والسيد محمد الدردفى، والسيد محمد بن عمور، والسيد عمران السكوري. كما منح رتباً وأوسمة أخرى لكل من محمد الأسمع والسيد عبد الله بن عامر والسيد عبد السلام بوقشاطه والسيد مصطفى امنينه والسيد وصفى الخازمى .
وقبل هذه "النيابة" عن الخليفة كان السيد أحمد الشريف يحمل رتبة "مشير" في الجيش العثماني، ويحمل الوسام المجيدى الأول والعثماني الرابع والثاني والنيشان المرصع مع الأوشحة، وفي فترة لاحقة حمل وسام ألماني من أرقى الأوسمة العسكرية الألمانية .
وهكذا أجبرته الظروف – السيد أحمد الشريف على أن يصبح رئيس حكومة وقائداً عسكرياً في آن واحد . وعلى الرغم من تفوق القوات الإيطالية المعادية وقلّة خبرته العسكرية، فإنه تحمّل المسئوليات الجسام بكفاءة مذهلة .
وعقب انسحاب القوات التركية من طرابلس الغرب أخذت حركة المقاومة هناك تخمد تدريجياً. أما في برقة فقد أبقى الأتراك على بعض قواتهم فلقيت مساندة كاملة من قوات البدو واستطاعت أن تلحق بالإيطاليين عدة هزائم ساحقة. وفي غضون ذلك قام السيد أحمد الشريف بتأليف حكومته الخاصة التي جعل مقرّها في الجغبوب وأصبحت كافة أوراقها الرسمية تحمل ختم "الحكومة السنوسية" وقد شدّ من أزره التأييد المعنوي الواسع النطاق الذي عمّ أرجاء العالم العربي والإسلامي إذ نشطت من كل من مصر وسوريا والحجاز لجان جمع التبرعات دعماً للجهاد الليبي، فيما كانت إمدادات المؤن والذخائر ترد عن طريق ميناء السلوم بمصر التي لم يكن بوسعها إرسال قوات من عندها نظراً لوجود السيطرة البريطانية فيها وقتذاك ( وما أشبه اليوم بالأمس إذ مضت ستة أشهر على قيام ثورة 17 فبراير ولم تعترف لا سوريا ولا مصر ولا الحجاز حتى اليوم ) فشكلت جمعية للهلال الأحمر من أجل العناية بالمرضى والجرحى بين صفوف المقاتلين الليبيين . (1912م – 2011م) .
وفي صيف عام 1913 بدأت الأمور تسير من سّيء إلى أسوأ بالنسبة للقوات السنوسية التي تكبّدت خسائر فادحة في بعض المعارك واضطرت إلى إخلاء المواقع القريبة من بنغازي ودرنة وعدة مناطق في الجبل الأخضر. كما زاد من تدهور الموقف حدوث خلاف بين السيد أحمد الشريف ومستشاره "عزيز المصري" حول سير العمليات الحربية مما أدّى إلى انسحاب هذا الأخير عبر الحدود المصرية حاملاً معه معظم قطع المدفعية التركية المتبقيّة، فاشتكاه السيد أحمد الشريف إلى أنور بك، وحوكم المصري أمام مجلس عسكري تركي أصدر ضده حكماً بالإعدام بتهمة تسليم برقه للطليان . واعتبر البرقاويين تخلّى عزيز المصري عنهم واستيلائه على الأسلحة الثقيلة وأخذها معه إلى مصر – خيانة لا تغتفر ومهما يكن من أمر فإن الحكومة التركية لم تلبث أن أطلقت سراحه ولم تنفذ فيه حكم الإعدام بل سمحت له بالإقامة في مصر وذلك استجابة لوساطة أصدقائه الكثر من ذوي النفوذ هناك وتدخّل مراسل صحيفة "التايمز" البريطانية في إسطنبول .
وفي وقت لاحق ساهم عزيز المصري في تفجير الثورة العربية بالحجاز، ثم اختار الجنسية المصرية وشغل في مصر عدة مناصب هامة من بينها منصب المفتش العام للجيش المصري . وكانت المقاومة المنظمة بقيادة الضباط الأتراك قد توقفت في برقه بعد رحيل عزيز المصري، غير أن القتال استمر بأسلوب حرب العصابات حيث ظل عرب برقه يضايقون الإيطاليين بشنّ هجمات متكررة على الموانئ وخطوط الإمدادات لمنعهم من بسط سيطرتهم إلى أبعد من حدود الشريط الساحلي .
وفي طرابلس انقسم أهل البلاد إلى فريقين كان أحدهما يصرّ على مواصلة القتال والآخر ينادى بالدخول في مفاوضات مع الطليان على أساس المطالبة بالحكم الذاتي وفقاً لما نصّت عليه معاهدة "أوشى لوزان" المنعقدة خلال شهر أكتوبر 1912.
وقد رجحت لبعض الوقت كّفة الرأي الداعي إلى استمرار المقاومة، وكان يتزعم هذا الرأي المجاهد سليمان الباروني ( من قادة ثوار الجبل ) غير أنه لم يفلح في توحيد الشعب خلف قيادته .
وكان انسحاب القوات التركية في أوائل عام 1913 قد ترك أهل طرابلس الغرب وحدهم بلا قيادة وعّزلاً من السلاح، فتكمن الطليان من احتلال معظم أجزاء البلاد دون مقاومة تذكر. ورحل الباروني إلى اسطنبول في مارس 1913 ومكث هناك إلى عام 1915 بعد أن انشغلت إيطاليا باندلاع الحرب العالمية الأولى في أوروبا، مما أتاح الفرصة لاستئناف العمليات المساندة للأتراك في طرابلس الغرب .
ونتوقف عند هذه المرحلة على أن نعود لنروي ما حدث للسيد أحمد، وكيف أسدل الستار على حياته السياسية واضطراره للخروج إلى تركيا خلال شهر أغسطس 1918، والبقاء بها إلى أن طلب منه مصطفى كمال آتاتورك رئيس الجمهورية التركية مغادرة البلاد حيث وافق على استضافته الملك عبد العزيز آل سعود وبقى إلى أن وافته المنيّه هناك عام 1932 .
(يتبع في الحلقة القادمة )Ü .....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق