رحلة الشيخ يونس الزلاوي بين المحن و المنح
بقلم الدكتور : فتحي العكاري
من حكم القدر ان يمر المرء في حياته بين محطات من المحن و المنح و لكن المنحة الكبرى تكون في الاعتبار، و ما أحوج الداعية للعبرة و الاعتبار فعندها يزداد قلبه تعلقا بالله و تثري تجاربه علمه و ينطق لسانه عما في قلبه و بالتالي ينفذ خطابه إلى قلوب سامعيه.
وقد مر الشيخ الدكتور يونس محمد صالح الزلاوي بعدد من المحن و المنح التي ساهمت في رسم معالم شخصيته و أسهمت في تطوير قدراته.
نشأته
ولد يونس الزلاوي في قرية زله سنة 1967م و بعد أيام من ميلاده انتقل مع أسرته إلى مدينة بنغازي. دخل يونس المدارس في السادسة من عمره و مع وصوله للمرحلة الإعدادية سنة 1980م زاد تعلق قلبه بالمساجد من خلال المداومة على الصلاة في المسجد و الانخراط في حلق تحفيظ القرآن على يد الشيخ رائد الشريدي. وفي نفس تلك الفترة كان له نشاط رياضي متميز حيث زاول لعبة الكرة الطائرة ولعب لنادي الأهلي و المنتخب الوطني. و مع مرور الوقت في سنة 1984م مال إلى حفظ القرآن و المساجد على حساب الرياضة فبدأت مشاكله مع إدارة نادي الأهلي حيث كان المدعو الطيب الصافي بينهم فبدأت مضايقة يونس أمنيا لعله يترك المساجد و يعود للملاعب. و مع زيادة الملاحقة اضطر يونس للذهاب للعيش في اجدابيا فرارا من الملاحقة خاصة بعد أحداث محمد الفقي و مقتل المجرم أحمد مصباح الورفلي في بنغازي سنة 1988م حين اشتدت مطاردة الشباب الملتزم في بنغازي.
رحلته في طلب العلم
اختفى يونس عن الأنظار في اجدابيا لمدة ثمانية أشهر إلى أن قيض الله له القبول للدراسة في السعودية حيث سافر للسعودية في شهر أغسطس سنة 1988م و التحق بالدراسة في جامعة المدينة المنورة و درس بها و تخرج منها في سنة 1993م. و كانت هذه المرحلة مرحلة تأسيس للشيخ يونس على طريق الدعوة إلى الله.
و المحنة هنا تكمن في المتابعة الأمنية لشاب في مقتبل العمر مما اضطره للاغتراب عن بلده، و أما المنحة فتكمن في أن الله مهد له طريقا من مساجد ليبيا إلى المسجد النبوي و حلق العلم و أعمال الحج و العمرة و عمارة المساجد الحرم و عمارة القلوب.
بعد تخرجه من جامعة المدينة المنورة لم يكن لديه خيار في العودة إلى ليبيا فذهب إلى السودان لدراسة الماجستير بجامعة أم درمان مع بداية 1994م، حيث تحصل على الماجستير في سنة 1998م و تقدم لنيل درجة الدكتوراه لكن السلطات السودانية طلبت منه مغادرة السودان خوفا على سلامته بعد آن بدأت السلطات الليبية الأمنية في ملاحقة الشباب الليبي في السودان. وهنا بدأت محنة أخرى للبحث عن موطن حياة آمن له و لأسرته الصغير المكونة من زوجته و أطفاله، و تأتي المنحة من الله أن سهل له اللجوء إلى جمهورية أيرلندة و زاده فضلا أن جعله داعية بين المسلمين فيها و تميز بحلاوة التلاوة و صدق العبارة و سلاسة الطبع و الطبيعة فنال القبول في قلوب المصلين وهذه هي المنحة الكبرى.
واصل دراسته العليا و نال درجة الدكتوراه واستمر في العمل في المساجد و مدارس تحفيظ القرآن في ايرلندة كما ساهم في عدد من مساجد أوربا بالدعوة إلى الله و خاصة في مواسم الخير في شهر رمضان إلى أن فتح الله له طريقا إلى ليبيا بعد فترة الانفتاح في السنوات الأخيرة. و كان في تلك الفترة كحال جميع الليبيين شديد الشوق إلى بلده و أهله و ينتظر الفرصة للعودة إليهم، فهو كان يعتقد أن مكانه الصحيح في ليبيا و ليس خارجها و القاعدة الشرعية تقول: الأقربون أولى بالمعروف، و خيركم خيركم لأهله.
العودة إلى الوطن
عاد الشيخ يونس إلى ليبيا في سنة 2009م و استقر في بنغازي حيث تعاون مع جامعة قار يونس في كليتي الآداب و التربية و كلية الفكر الإسلامي و ساهم في النشاط الدعوي في المساجد بدروس دورية يومي الثلاثاء و الخميس في أصول الفقه و فقه لبيوع للتجار في بنغازي بجامع الشهداء. و استمر في هذا حتى قيام ثورة 17 فبراير حيث كان له دور مع المجلس المحلي في بنغازي لتنظيم جهود التجار في دعم الثورة بتزويد الأسواق بما يحتاجه الناس. ثم رأى أن دوره الصحيح في الدعوة في المساجد فتعاون مع إدارة الأوقاف في هذه الفترة في تنظيم شؤون الدعوة و دعم الثورة من خلال الدعوة للمشاركة في الجهاد و ضرورة احترام حقوق الآخرين في ظل غياب القانون و غياب رجال الأمن من الشوارع.
المحنة الكبرى و المنحة الأكبر
بدأت محنة الشيخ يونس الكبرى عند ما وقع في اسر كتائب الطاغية ألقذافي صباح يوم 17 مارس 2011م عند ما كان عائدا من اجدابيا بعد رحلة إلى اجدابيا للدعوة و الاجتماع ببعض أئمة المساجد، فهو لم يكن مقاتلا و إنما عائدا إلى بنغازي بعد صلاة الصبح مع بعض من أفراد أسرته. استوقفتهم سيارة تابعة للكتائب و طلبت منهم التوقف وكان معهم أحد الشباب فأراد الجنود أخذه ثم تطور الأمر إلى اعتقال الشيخ يونس عند ما عرفوا أنه أستاذ جامعي و يحمل دكتوراه. و من تلك اللحظة بدأ الضرب و السب و الشتم و القيود و بدأت رحلة العذاب. و لقد تعددت صنوف العذاب من الأذى الشخصي المباشر الذي يصل في بعض المواقف إلى وضع مسدس في جبهة الشيخ التي لم تعرف إلا السجود لله و تهديده بالقتل في لحظة تتناثر فيها القنابل و الشظايا حول غرفة التحقيق، إلى سوء التغذية الذي يصل إلى مستوى التجويع القاتل و انعدام الرعاية الصحية بل وصل الأمر إلى إجبار السجناء على تناول داوية هم لا يحتاجونها و بكميات كبيرة بقصد أنهاك قواهم النفسية و انعدام أثاث حجرات السجن فينام الأسرى على الأرض، و استحالة الحصول على ملابس فيبقى السجين في ملابسه التي ألقي عليه القبض بها عدة أسابيع في غياب الصابون و توفر الماء المالح في قوارير فقط، إنه عذاب الهدهد. و إذا أضفنا إلى هذا مشاهد من تعذيب الأسرى الآخرين فإن الأمر يتحول إلى مأساة.
و لم يكن أمام الشيخ و رفاقه سوى التضرع إلى الله في الصلوات و في قيام الليل وفي صلاة التراويح و مساعدة بعضهم البعض و لقد كان لشيخنا الفاضل دور كبير في نصح و مؤازرة رفاقه و هي منحة من الله لهم في سجنهم الضيق لن ينسوها أبدا.
و لقد فرج الله كربة الشيخ و رفاقه مع تحرير طرابلس فخرج الجميع من سجن أبي سليم الشهير بتاريخ 21 أغسطس 2011م، و تم إطلاق سراحهم في دفعات من خمسين فردا. عند خروجهم استقبلهم سكان من منطقة أبي سليم و لا زالوا في وقتها على ولائهم لنظام ألقذافي و معظمهم كان يحمل سلاحه و لكنهم هنئوا الجميع بالسلامة و رافقوهم إلى الطريق الرئيسي عبر مساكن الحي.
وصلوا إلى الطريق العام فقابلهم مواطن من طرابلس، فسلم عليهم و سألهم ماذا أنتم فاعلون الآن ؟ فقالوا نريد الذهاب إلى أقاربنا. فقال لهم هل لديكم مال؟ فردوا: نحن خارجون من السجن كما تعلم. فأخرج مالا من جيبه و دفع لكل واحد فيهم عشرة دينارات، ففرج عليهم كربة شديدة و الله ندعو أن يفرج عليه كرب الدنيا و الآخرة.
و لقد كان خروج الشيخ من السجن هو المنحة الأكبر له و لأهله و عياله و محبيه و طلابه، ففيها كانت نجاته من الموت و عودته إلى الدنيا من جديد لينفع الله به أقواما آخرين و يزيد في أجره و نفعه و علمه و عمله و لله الفضل و المنة و له الحمد أولا و آخرا.
مشاهد من أساليب أزلام ألقذافي في التعذيب
لقد مر الليبيون بمشاهد قاسية من العذاب في كل المواقع و المواقف و لكن هول ما رآه الشيخ يونس و رفاقه لا يليق إلا بمجازر سجن أبي سليم في طرابلس و حقد ألقذافي و أزلامه على الليبيين. فهذه الصنوف من العذاب يخجل المرء أن يوقعها في أعداء بلاده كما أنها لا يرضى بها شرع و لا دين.
الحقد على المتعلم المتميز
من المشاهد التي لا تنسى، ما شاهده الشيخ من تخصيص شخص بعينه بالضرب لأنه رجل متميز، فأخينا هذا كان متميزا خلقا و علما و دينا و وطنية. كان يعيش في أمريكا كطبيب استشاري متخصص في جراحة الأعصاب، و عند ما رأى مشاهد الحرب في ليبيا ترك أمريكا و أتى إلى بنغازي لمساعدة الجرحى فاقترح عليه الأطباء أن يذهب إلى اجدابيا فهي في حاجة أمس إلى خبرته. هاجمت الكتائب المستشفى في اجدابيا و قتلت الجرحى و أسرت هذا الطبيب. و في التحقيق قال لهم أنه أمريكي الجنسية بهدف تخويفهم من إيذائه، فتحول الأمر إلى استهدافه بالضرب يوميا ضربا مبرحا. فكانوا ينادون: أين الطبيب الأمريكي؟ ثم ينهالون عليه بالضرب و هو صابر و محتسب. و الضرب الذي نتحدث عنه يكون بالأيدي و الأرجل و العصي و الأنابيب و أخمس لبندقية و كل ما يجدونه في أيديهم.
سحب الأسير بين سيارتين
رافق الشيخ يونس في رحلته من اجدابيا إلى آخرها شاب من بنغازي من حي الدولار اسمه على وقع في اسر الكتائب فربطوه بوثاق في قدميه و يديه و وضعوه على الأرض ثم أوثقوا حبالا في أطرافه و ربطوا الحبال في سيارتين من الخلف. ثم أمروا السيارتين بالتحرك في اتجاهين مختلفين لسحب جسده بالطول. سحبوه حتى سمعوا أوصال أكتافه تتمزق من قوة الشد فأصيب بشلل نصفي أقعده عن الحركة. و مع كل هذا نقلوه إلى سجن أبي سليم ملقا على أرضية الشاحنة طوال الطريق، و بقى في السجن مع الشيخ بدون عناية طبية إلا عناية الله و مساعدة رفاقه له، و هو الآن في أحد مستشفيات طرابلس.
استخدام حامض الكبريتيك
التقى الشيخ بثلاثة أخوة من الزاوية كانت جريمتهم أنهم رفعوا قضية للمطالبة بأرض لهم تم نزع ملكيتها و تخصيصها لبعض أزلام ألقذافي و في الأحداث التي رافقت الثورة حانت الفرصة للانتقام منهم، فهجم بعض أفراد الكتائب على بيتهم و قام أحد المجرمين بصب حامض الكبريتيك على حوض "نادر" و أسفل بطنه ليصيب منطقة العانة بكاملها بحروق مركبة و أضرار بالغة، فعل به هذا أمام زوجته و أطفاله و في بيته و لا حول و لا قوة إلا بالله. و بقى أخينا معهم في السجن طوال المدة بدون عناية طبية إلا رعاية الله و مساعدة رفاقه و إخوته.
الحرب النفسية
كانت للسجانين أساليب مختلفة لتدمير معنويات الأسرى فعلى سبيل المثال يعلنون الإفراج عن بعض الأسرى و يخرجونهم من العنبر ثم يتم سجنهم في عنبر آخر و قد يدور نفس الشخص على العديد من العنابر بهذه الطريقة و منهم رجل مسن يدعى محمد اشتيوي من مصراته. يبلغ هذا الرجل من العمر 82 سنة و ألقت عليه الكتائب القبض في مصراتة و هو ذاهب لتغذية بعض شياهه ذات يوم في المساء. أخذوا سيارته و ما كان معه من المال و ألقوا عليه القبض كأسير و تم إيداعه في سجن أبي سليم و لم يخرج إلا بعد تحرير طرابلس. و هذا دليل على أن الكتائب كانت تسلب المواطنين أشيائهم ثم تودعهم السجن. و من أساليب الحرب النفسية مشاركة بعض عناصر النساء في تعذيب الأسرى و استخدامهن ألفاظا نابية و لمسات قبيحة لبعض أعضاء الأسير الخاصة مع الضرب بالسوط السوداني أو بالكهرباء.
و إذا تمكنوا من تحطيم مقاومة الأسير النفسية و قبل بالاعتراف بما يريده السجان يتم تقديمه إلى برامج الإعلام التي
كان يديرها شاكير و قد قاموا في بعض الأحيان بالتغطية على آثار التعذيب بالماكياج.
الهوندا1، الهوندا2، الهوندا3
الهوندا اسم يطلق على تعليقة للإنسان في الأعلى مع تكتيفه و تزداد شدة التعذيب و هوله حسب الدرجة المبينة أمامها. و يتم فيها تجليس الأسير في وضع القرفصاء و تقيد يديه أمام رجليه ثم يتم إدخال قضيب معدني بين ساقه و فخذه و هو على الأرض ثم يرفع بواسطة هذا القضيب بعد تعليقه في رافعة خاصة. ثم يبدأ التعذيب بالعصي و الهراوات و لمس الأعضاء التناسلية و العورة و استخدام الكهرباء.
و مع تقدم الدرجة يتم نزع الملابس و يبقى الأسير معلقا عاريا تحت تصرف السجان أو السجانة ليفعلوا فيه ما يشاءون. و من هول التعذيب أصيب أحد الأسرى بحالة عصبية تعتريه كل ما سمع صوت المعذب في الممر خارج الحجرة. أما أحد الأسرى فصاح عند ما أرادوا إدخاله للدرجة الثالثة قائلا: أنا لدى طائرة و دبابة و مدافع و كل ما يخطر على بالكم، أنا معترف بهذا.
و يمكن لنا أن نسمي سجن أبي سليم بفندق جهنم في طرابلس من هول ما رآه النزلاء فيه.
و في الختام أحب أن أذكر الجميع بأن كل ما حدث كان باسم ألقذافي و لكن قام به أزلامه بالنيابة عنه و هم بالتالي شركاء في الجريمة و لا يجوز أن نغفر لهم هذا بدون محاسبة. و لا مكان بيننا لمن قتل أو عذب أو سرق أو ظلم مهما انشق من جلده أو خرج من ثيابه المسروقة أصلا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق