الأربعاء، أكتوبر 26

حصريا :( ابراهيم امنينة ) سلسلة ذاكرة الايام

ذاكرة الايام13
الحلقة الثانية
إسرائيل تقوم بتجنيد معمّر  القذافي
خلال الستينيات لخدمة مصالحها ..
بقلم : ابراهيم السنوسي امنينة
استقطاب وتجنيد القادة
 يرجع برنامج استقطاب وتجنيد القادة في أصله إلى السياسة الامبريالية البريطانية في تكوين تحالفات ذات فائدة للطرفين. وهي تحالفات شملت قادة متعددين تراوحوا ما بين مهراجاً هندي وزعيم من الاسيكمو. هذا النوع من الارتباطات (التحالفات) ليس له أي علاقة "بشراء" الأصدقاء أو الحلفاء كما يتهمنا بعض الإسرائيليين وبعض الأجانب. نحن لم نشتر مثلاً "هنري كيسنجر" إلا بالقدر الذي يمكن أن يقال بموجبه عن الانجليز أنهم أشتروا "سلطان أقليم جهور" (SULTAN OF JOHORE). الذي عملناه هو أننا ساعدناه  (أي هنري كيسنجر) في الوصول إلى بعض الأهداف التي كان يتطلع أن يصل إليها، وفي المقابل لم نكن نطمع أن نحصل منه على أكثر مما تحصلنا عليه من           "لورد بلفور" (LORD BALFOUR) عام 1917، والذي لم يعد أن يكون تعبيراً وتأكيداً لروح الصداقة بيننا.
  هذا البرنامج هو ما يطلق عليه رجال الأعمال الأمريكان "اصطياد الكفاءات"  (HEAD HUNTING) والذي يعني، باختصار، البحث عن العناصر الخبيرة الكفؤة وعرض برامج ومقترحات عليها تكون ذات فائدة ومغانم للطرفين. بالطبع لن يكون هناك اتفاقاً مكتوباً.. بين الرجال الشرفاء ليس هناك ما يدعو إلى أي شيء من هذا القبيل. كما أنه من الأمور المفهومة أن أحد أطراف هذا الاتفاق قد يجد نفسه مضطراً إلى إنكار أو نفي وجود أي علاقة أو اتفاقية مع الطرف الآخر. يقوم الشخص المكلف بمهمة اصطياد الخبراء بالبحث عن الرجال أو النساء الأكثر إمكانية وفائدة وبخاصة من بين الذين لديهم نقاط ضعف معينة قابلة للاستغلال والابتزاز. قد يكون أحد هؤلاء رجل أعمال يتركز كل اهتمامه على زيادة مكاسبه، وقد يكون شخصاً يسعى إلى تطوير وتوسيع دائرة طموحاته الشخصية. كما أن هناك من يبحث عن مجرد الصيت والشهرة، وآخرين يبحثون عن السلطة والنفوذ. هناك أنواع عديدة من الأسباب الدافعة للأشخاص، وبوسعنا أن نساعد كل واحد من هؤلاء في بلوغ طموحاته. وبالمقابل ما على كل منهم إلا أن يقدم لنا المساعدة بين الفينة والأخرى.. الكونجرس .. مجلس الشيوخ.. المحكمة الدستورية العليا.. بإمكاننا أن نمهّد الطريق إلى كل منها. إذا توفر الشخص المؤهل فإننا على استعداد ولدينا القدرة على توصيله حتى إلى البيت الأبيض. لقد فشلنا مرات كثيرة، ولكن منذ عام 1928 كانت حالات فشلنا قليلة.
  ربما كان "روزفلت" أول محاولة ناجحة لنا في التأثير على الانتخابات العامة (الأمريكية) وربما ليس بمقدور أحد أن يدرك على أي مدى كانت مساعدتنا له في إعادة انتخابه ثلاث مرات. ومع ذلك فقد أصبح "روزفلت" يشكل بالنسبة لنا نوعاً من خيبة الأمل. وعلى الرغم من أن روزفلت أخذ يظُهر، مع مرور السنين، بعض علامات العداء للسامية، فإن المساعدات التي قدمناها له أتت ثمارها ألف ضعف عندما جرى اختيار "هاري ترومان"  كمرشح لمنصب نائب الرئيس (مع روزفلت كمرشح للرئاسة). إن الفضل في ذلك الترشيح يعود بالكامل تقريباً لشخص واحد هو "فيليكس فرانكفورتر"  قاضي المحكمة العليا، رغم أن هذا الأخير، صرح ذات مرة أن فكرة ترشيح "ترومان" هي من اقتراح رجل أعمال أقل نجاحاً وشريك قديم لـ "هاري ترومان" يدعى "ايدي جاكبسون" الذي يعد من أكثر أصدقاء إسرائيل ولاءً لها في أمريكا.
  رغم أن "ترومان" قدم لإسرائيل ما لم يقدمه أي شخص أخر غير إسرائيلي، ولكننا مع ذلك، لا نستطيع أن نقول عنه أنه كان مجنداً لنا بقدر ما يمكننا أن نقول ذات الشيء عن "لندون جونسون"  أو "هنري كيسنجر".. يمكننا القول أننا استغللنا "ترومان" . أما "جونسون" و "كيسنجر" فقد تعاملنا معهما مثلما فعلنا مع عدد من الرجال والنساء الطموحين في جميع أنحاء العالم .
  لم يكن "ترومان" من نوع الرجال الذين يسهل استعمالهم. كان محدود القدرات العقلية، كما كان عديم الفهم للشؤون الخارجية، وكانت سياساته من النوع الذي يمكن وضعه            تحت تصنيف، السياسات التي تعتمد على العلاقات الشخصية                                    (THE "OLD BOY" POLICY) . في ذلك الوقت لم نكن، نحن اليهود، بارعين في اللعبة.. بل ولنكن واقعيين، ولنعترف، بأننا كنا في أمريكا، في ذلك الوقت، غرباء على هذه اللعبة، بالرغم من أننا في عهد "روزفلت" كنا قد كسبنا أرضية واسعة وكنا نتعلم بسرعة.
  في عام 1947 عندما كانت هيئة الأمم المتحدة تعد لطرح مسألة تقسيم فلسطين للتصويت. لقد كنا حريصين، بالطبع، على أن تكون نتيجة التصويت "نعم" للتقسيم، كانت هذه النتيجة وحدها هي التي تعني انسحاب القوات البريطانية، وإفساح الطريق أمام قيام دولة إسرائيل .
 كان العرب ضد فكرة التقسيم، لأنهم كانوا يرون أنها تشكل تدخلاً أجنبياً في أراضيهم. أما البريطانيون فقد كانوا ضد الفكرة لأنهم رأوا فيها تهديداً لنفوذهم في المنطقة، كما رأوا فيها خطوة يمكن أن تؤدي إلى عدم استقرار الشرق الأوسط، وأن تقود في النهاية إلى حرب طويلة.
  أما في أمريكا، فلقد سبق لنا أن استطعنا فعلاً كسب عدد كبير من أعضاء مجلس النواب والشيوخ للوقوف إلى جانبنا، ولكن عندما بلغ الأمر مرحلة الضغط من أجل التحقيق الفعلي لعملية تقسيم فلسطين، لم يقم "ترومان" باتخاذ موقف (ايجابي) من ذلك، بل إنه في الواقع لم يعر اهتماماً لما قد يسفر عنه الأمر، بل تبين لنا أنه بدأ يمتعض من الضغوطات التي أخذت تمارسها عليه التكتلات اليهودية، وأنه قد يتخذ موقفاً معارضاً لفكرة التقسيم مثلما فعل وزير دفاعه "جيمس فوريستال" .
  لقد كان هناك توجه لدى بعض المتطرفين من بيننا حتى إلى ضرورة "التخلص من ترومان" وهو ما قد يعني بالمفهوم السياسي، أن هناك انتخابات عامة على الأبواب خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر التالي. غير أن مثل هذا الاقتراح (بالتخلص من ترومان) كان محاطاً بما ينذر بالسوء.  
 بعد ذلك، وفي اللحظات ألأخيرة، وبعد أن كان "ترومان" قد رفض مقابلة مع الدكتور "وايزمان"، الذي كان يحاول الحصول على تلك المقابلة منذ عدة أيام، في تلك اللحظات تدخل "ايدي جاكبسون" شريك العمل السابق للرئيس ترومان الأمر الذي غيّر بالكامل مجريات الأمور. ومنذ ذلك اليوم لم يعد لنا صديق مثل "ترومان" . وعلى امتداد الأربع سنوات التالية  تحصلنا على كل ما أردناه منه (لقد أخذت عملية التخلص من ذلك النذل "جيمس فوريستال" منا الكثير.. لحسن حظنا أنه دخل المستشفى الأمر الذي سهل على أحد رجالنا مهمة القضاء عليه) .
  لقد تعلمنا الكثير من الانتخابات الأمريكية عام 1948. ومنذ ذلك الوقت وحتى  الآن أخذ وضعنا يزادا ويضطرد قوة كل يوم. إن الدرس الرئيسي الذي تعلمناه هو ألا نحاول استقطاب وتجنيد أي سياسي بعد أن يكون قد وصل إلى المنصب الذي يطمح إليه. إن ذلك يعتبر لعبة خاسرة، لأن الشخص المعني في هذه الحالة يكون كبيراً وبارزاً، وهو يعلم ذلك عن نفسه، وأنت ستكون في موقف الصغير والمحتاج إليه، لذا ينبغي عليك أن تبدأ به ومعه على طريق نجاحه. عليك بعد ذلك أن تستعمل كل الحيل، وأن تستخدم كل الوسائل للتأكد من بلوغه النجاح الذي ينشده، وفي هذه الأثناء يجب أن تجعله يعرف مدى المساعدة التي يقدمها إليه، إذا دعتك الضرورة، في سبيل مساعدته، أن تلجأ إلى استخدام بعض الخدع والمقالب الرديئة، فعليك أن تجعله يعرف ذلك أيضاً، بالطبع فإن شيئاً من ذلك لم يجد طريقه إلى العلانية والنشر، بل يبقى سراً صغيراً، بينك وبينه فقط. وأخيراً فلا تحاول تضييع هذه الوضعية الممتازة والنافذة التي بلغتها مع هذا الشخص المعني بذلك بتقديمك إليه طلبات من أجل خدمات وأفضال صغيرة.
  على أي حال، كان "هاري ترومان" أول "سمكة كبيرة" تقع في شباكنا. كان أول صيد ضمن طابور طويل. نحن لا نعتبر "أيزنهاور" حالة من حالات الفشل بالنسبة لنا لأنه كان- في واقع الأمر- بعيداً عن متناولنا في ذلك الوقت، ولأننا، فضلاً عن ذلك، كنا منهمكين في بناء علاقتنا وترسيخها مع "نيكسون". حقيقة أن نيكسون لم يكن فارس أحلام أحد ولكنه كان متاحاً لنا، ومع الوقت، فقد أثبت أنه غداً ذو فائدة لنا .
  إلى جانب ذلك فقد كنا نقدمّ، خلال تلك الانتخابات، كل ما في وسعنا من دعم للعناصر التي اعتبرناها ذات حظوظ كبيرة للترشيح لعضوية مجلس النواب والشيوخ. لقد كنا في وضع مثالي سياسياً، حيث كان في مقدرونا تأييد الحزبين المتنافسين. وفي الوقت الذي ساهمنا فيه بمئات الآلاف من الدولارات أمكننا أن نجني ما يقدر بالملايين من الدولارات في شكل معدات عسكرية ومساعدات مالية وقروض ميسرة عادة ما يغض عنها النظر في نهاية الأمر. وعندما ازدادت مساهمتنا لتصل إلى ملايين الدولارات كانت الثمار التي جنيناها تقدر بمئات الملايين من الدولارات. وذلك هو بعض ما يعنيه برنامج "تجنيد القادة".       
طبيعي أننا نجحنا في أحيان، وفشلنا في أحيان أخرى. كان "كيندي" عام 1960 مفاجأة كبرى لنا. لقد كنا على يقين بأن نيكسون هو الذي سيفوز. إننا لم نخسر شيئاً بفوز كنيدي، بل إن الكثير من أناسنا كانوا من المؤيدين المتحمسّين له، ولكنه كان سيسعدنا أكثر لو أن أخيه "روبرت" لم يكن بجانبه طوال الوقت.
  لم يقض "جون كنيدي" مدة طويلة في البيت الأبيض حتى يمكننا الحكم على ماهية وحقيقة سياساته. من الواضح أنه لم يكن لنا علاقة باغتياله، على الرغم من أننا سمعنا الكثير من الإشاعات في هذا الشأن، ولكن لا ضير من ذلك فالكثير من الناس الآخرين قد سمعوا نفس الشيء. ربما سبق لنا أن أقمنا علاقة عمل جيدة مع "ليندون جونسون" الذي أثبت فيما بعد أنه أكثر فائدة بالنسبة لنا.
  لقد كان "نيكسون" و "كسينجر" يشكلان ثنائياً عظيم الفائدة بالنسبة لنا. وليس هناك من كان بمقدوره أن يفوقهما في ذلك سوى "أجنيو" .
  لو أن مخططاتنا سارت كما نتمنى لكان "أجنيو" أول رجل يمثل الصهيونية في البيت الأبيض. وفي تلك الحالة كان يندر أن تجد شيئاً يصعب علينا الحصول عليه من الولايات المتحدة الأمريكية. المشكلة التي واجهناها هي أن "أجنيو" كان رجلاً أحمقاً ولهذا قررنا التخلي عنه عندما تورط في كثير من المشاكل. إن لدينا سياسة ثابتة لا تتغير تتمثل في عدم إضاعة أي وقت من أجل "الفاشلين" .
  كان  "هنري كيسنجر" أكثر الأشخاص الذين عرفناهم طموحاً. كان يريد الوصول إلى البيت الأبيض. وفي الواقع كان من الممكن أن يتحقق له ذلك لولا وجود فقرة قصيرة في الدستور (الأمريكي). لقد كان كيسنجر على علم بذلك، كما كان على دراية بمدى الوقت الذي يمكن أن يستغرقه تعديل تلك الفقرة وقيمة التكاليف لها. المشكلة أنه لم يكن لديه المال الكافي.. وبالنسبة لنا لم تكن لدينا النية لتوفير ذلك، ولهذا كان على الدكتور "كيسنجر" أن يقنع بمنصب مستشار الأمن القومي للرئيس "نيكسون"، ومن بعد ذلك وزيراً لخارجيته. وبالنظر إلى ولع "كيسنجر" بالسفر والمفاوضات والحسناوات فقد كانت هذه الوظيفة أكثر مناسبة ومواءمة لشخصيته.
  من حسن حظنا أن الرؤساء وكذلك وزراء الخارجية الأمريكيين لا يستمرون في مناصبهم لأكثر من ثمانية سنوات. وآجلاً أو عاجلاً يأخذون في تصديق ما يكتبه لهم محررّو خطبهم، ومن ثم فإنهم يفسدون كل شيء. على أي حال، فإن هذه الوثيقة تشرح كيف نقوم باستقطاب وتوجيه العديد من قادة العالم، وليس من مهمتها شرح كيف يقوم هؤلاء بمواجهتنا والتأثير فينا.
  دعونا الآن نعير بعض الاهتمام لشخصيات أخرى..
"عدنان الخاشقجي"، كان هدفاً بسيطاً نسبياً بالنسبة لنا. لقد كان كل همهّ هو تجميع الثروة. كان لدينا صديق في لندن يملك عدداً من النوادي الليلية، ويعتبر واحداً من أحسن عملائنا النشطين في مجال "التجنيد".
  لقد حثنا هذا الصديق على إجراء صفقة مع الخاشقجي، فقمنا بذلك، ولم نأسف على تلك الخطوة البتة، على الرغم من أنه كلفنا الكثير من الأموال الأيام الأولى.
  لقد أعددنا الخاشقجى لكي يكون تاجر سلاح. ولأنه عربي فقد كان بإمكانه السفر إلى أي مكان.. كل الدول العربية، أوربا الغريبة، على جانبي الستار الحديدي، الصين، فورموزا، روسيا، فيتنام الشمالية، كوبا، والولايات المتحدة الأمريكية. لقد صنع الملايين من الدولارات لنفسه ومليارات لنا. في بعض الأحيان كنا نستلم شحنات من السلاح ضمن برنامج المساعدات التي نتلقاها من الولايات المتحدة. لقد كنا نستعمل سفناً تحمل أعلاماً ليبيرية أو بنمية، وكانت تبحر من ميناء "نورفلك" بولاية "فرجينيا" الأمريكية في اتجاه "حيفا". كنا نقوم، والسفينة ما تزال في عرض البحر، بإعداد بيانات جديدة بحمولتها ووجهتها وكنا نحصل من ذلك على أرباح قد تصل إلى مائتين بالمائة، دون حاجة حتى إلى فتح الحاويات على الإطلاق.
  ربما سيأتي يوم يكون فيه الخاشقجي في غنى عنا، وتتوقف جدواه وفائدته بالنسبة لنا، ولكن سيكون هناك آخرون على استعداد لتعويضنا عن خدماته. وإذا أتى اليوم الذي وجدنا فيه أنفسنا لا نستطيع الاستغناء عن خدمات شخص بعينه، عندئذ سوف نكون في مأزق كبير.
  شخص يدعى آخر هو "برونوكرايسكي" . ولقد كان أول من لفت انتباهنا إليه هو "الدكتور سايمون روزنتال" المعروف بتكريس حياته وجهوده لملاحقة النازيين. لقد كان لديه ملف كبير عن "كرايسكى" وكان هذا الملف بحجم رواية بوليسية طويلة. وحسب تحرياتنا المستقلة فقد كانت محتويات ذلك الملف قابلة للاعتماد عليها، ومن ثم فقد رأينا إمكانية وضع ثقفتنا في "كرايسكي".
  كان كرايسكي معتقلاً في أحد سجون النازية، غير أنه أطلق سراحه، وتمكن من الفرار إلى السويد حيث أمضى معظم أيام الحرب. كل ذلك كان عين الحقيقة، ولكن ما تبقى من ملف "روزنتال" عن كرايسكي كان تجسيداً لما يمكن أن يفكر فيه أحد أعداء السامية كأحسن هدية لعيد الميلاد. إن ملف "روزنتال" يتهم كرايسكى بالعمل لصالح "الأدميرال كاناريس" للتجسس على الحلفاء ولا عطاء معلومات عن اليهود. قد يأتي اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق الدامغة كاملة ويتبين صحة كافة هذه الاتهامات لكرايسكي. عندئذ، وإذا اتضح لنا أنه لم يعد يفيدنا بشيء، فيمكننا تصفيته جسدياً، وفقاً لما كان ينصح به "روزنتال" على الدوام بشأنه.
  لقد قررنا الاتصال بكرايسكي، وكان عرضنا له من النوع الذي يصعب عليه رفضه. كان عرضنا "إما أن تعمل لصالحنا، وإلا..."، وفي الحال تلقى كرايسكي إشارتنا وفهم ما نعنيه منها، ومن ثم فقد شرع منذ ذلك الحين في تقديم العديد من الخدمات إلينا. ولا شك في أن من أهم الخدمات التي قدمها لنا هي قيامه بدور "المسيطر الرئيسي" على "القذافي". إذ لولا الخدمات التي قدمها لنا كرايسكي في هذا الشأن لكان العقيد الليبي قد أفلت من أيدينا منذ زمن بعيد .
  فيما عدا كرايسكي والعقيد (القذافي) نفسه، ليس هناك أكثر من ثلاثة أشخاص آخرين في العالم هم على علم بأن "معمر القذافي" على علاقة بنا منذ قرابة عشر سنوات.(أي منذ العام 1966)
  كانت عملية الاتصال الأولية بالقذافي قد تمت عن طريق شاب إيطالي يهودي كان يشتغل مدرساً بجامعة بنغازي. أثناء محادثة مع طالب صغير السن كان يستفسر عن تقديم طلب (انتساب) للالتحاق بالجامعة، اكتشف هذا المدرس الإيطالي أن الطالب ينحدر من أصل يهودي- كان هذا الطالب هو معمر القذافي الذي كانت جدته من ناحية والدته يعود أصلها إلى عائلة يهودية مشهورة من مدينة مصراتة (ليبيا)، والذي كانت أمه، قبل زواجها، قد نشأت وترعرعت كيهودية. الشيء الذي جعل هذا اللقاء مثيراً للاهتمام هو أن القذافي كان قد ذكر بأن لديه طموحاً للاتجاه إلى الحياة العسكرية. هذه المعلومات التي بدت غير ذات أهمية في حينها وجدت طريقها إلى عميل إسرائيلي في إيطاليا بعد بضعة أشهر. فيما بعد جرى تحويلها إلى "تل أبيب" حيث طرحت علينا بعد ذلك أثناء أحد لقاءات مؤسستنا (الموساد).
  ربما بدأ أن الموضوع انتهى عند هذا الحد، مجرد جملة واحدة في تقرير روتيني، غير أن رئيس مؤسستنا كان يملك حاسة خاصة تستقبل مثل هذه المعلومات، التي قد تبدو أنها غير ذات أهمية، استقبالاً مختلفاً. فعندما انتهى الاجتماع كان الرئيس يريد أن يعرف كل شيء يمكن معرفته عن هذا الطالب الليبي. وعندما يطلب رئيسنا معرفة "كل شيء"، فإنه يعني فعلاً "كل شيء". وإذا كان الضابط المسؤول سوف ينسى موضوع التكليف فإن اعتقاده خاطئ وعندما يّبدي رئيسنا اهتمامه بموضوع  ما، فإنه لا يدع هذا الموضوع يفوت قبل أن يجعله يؤتى ثماره، أو أن يصل بشأنه إلى قناعة مطلقة بعدم جدواه .
  كانت أول خطوة اتخذناها هي الرجوع إلى ملفاتنا لمعرفة من يوجد لدينا في المنطقة. ولكن المعلومات المتوفرة لم تسفر عن شيء يذكر، حيث أن جميع الأشخاص الذين لنا علاقة بهم موجودون في طرابلس . وفي ذلك الوقت كانت طرابلس وبرقة كأنهما دولتان منفصلتان، حتى أنه في الواقع كانت هناك بينهما بوابة حدودية. كان أول تقرير، شبه مفصل، وصلنا من شخص ليبي- مالطي- لم يكن ذلك التقرير يعني الكثير، ومع ذلك فقد أشار ذلك التقرير إلى أن هذا الشاب اليافع "معمر القذافي" يستحق الاهتمام والرعاية. ومن بين النعوت التي وصف بها التقرير القذافي أنه "غير راض.. متمرد.. طموح.. عديم الرحمة"، هل هناك أفضل من ذلك؟!
    عند هذه المرحلة قمنا بوضع "كرايسكى" في الصورة، وذلك لأنه كان هو العميل الوحيد المتوفر لدينا والذي يمتلك الشرطين الأساسيين لهذه المهمة، ونعني بهما، الغطاء الوظيفي، والمبرر الجيد لزيارة ليبيا.
  في ذلك الوقت كان قد مر عشر سنوات منذ شرع "كرايسكي" في العمل لصالحنا. وكنا قد قدمنا له خدمة عظيمة بمساعدته لكي ينجح في الفوز بكرسي في البرلمان النمساوي.
  كانت زيارة "كرايسكي" الأولى لبرقة من أجل بحث قضية ضحايا الحرب النمساويين،  ولم تكن هناك أي مشكلة في تعيين القذافي مرافقاً ومرشداً لكرايسكي أثناء تلك الزيارة. كانت هذه فرصة للقاء مبدئي، استطاع كرايسكي من خلاله أن يُقيّم ما إذا كان القذافي يمكن أن يصبح مفيداً لنا في المستقبل.
   وفي الواقع فإن كرايسكي قد ذهب إلى أبعد من ذلك حيث عرض على القذافي إمكانية قيامه (كرايسكي) بمهمة استطلاع سبل تقديم المساعدة والدعم له (أي القذافى) لكي يحقق أهدافه وطموحاته الوطنية.
  لقد تبع هذا اللقاء بين كرايسكي والقذافي لقاءات أخرى. في النهاية أعطينا أوامرنا للنمساوي "كرايسكي" بأنه على الشاب الليبي (معمر القذافي) أن يسعى للحصول على بعثة تدريبية لخارج ليبيا .
  كانت خطتنا في البداية، تقتضي إجراء الترتيبات اللازمة للقذافي بالذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يوجد لدينا ترتيبات واتصالات من الدرجة الأولى في برامج تدريب الجيش الأمريكي، غير أننا اضطررنا إلى إلغاء تلك الخطة بعد أن اكتشفنا بأن المخابرات المركزية الأمريكية تلجأ إلى أساليب ينقصها الكثير من البراعة في سبيل استقطاب وتجنيد هؤلاء الطلبة الأجانب من جانبها. لذا قررنا تغيير جهة التدريب صوب انجلترا. وفي واقع الأمر، فقد ثبت لنا أن إجراء البرنامج في انجلترا كانت له مزايا أحسن بكثير مما لو تم إجراؤه في أمريكا . لقد سهل ذلك التغيير على كرايسكي مهمة متابعة ومراقبة سير القذافي ثم بعد ذلك عندما انتهى البرنامج المرسوم له، فقد ضمن لنا بأن يقضي القذافي ثلاثة أسابيع إضافية للدراسة في مركزنا بباريس.
 في باريس وضع القذافي في الصورة بالكامل. حتى ذلك الحين لم يعرف القذافي من هم وراء كرايسكي على وجه التحديد. لا يستبعد أن يكون قد لحقه بعض الشك، لأن كرايسكي قام بسؤاله، في مناسبة أو مناسبتين، عن أبناء عمومته اليهود الذين كان البعض منهم ما يزال يعيش في طرابلس(ليبيا) حتى ذلك الوقت. لقد أبلغنا، من جانبنا، القذافي أنه إذا رغب في الخروج من هذا البرنامج فإن ذلك بمقدوره، ويمكنه إلغاؤه بالمرة.إن القرار متروك له.. أن يقود بلاده وربما العالم العربي بأجمعه، أو أن يعود إلى وحدته العسكرية في بنغازي وربما يبقى ضابطاً برتبة لا تزيد عن ملازم أول أو نقيب تابع لسلاح المخابرة (الإشارة).
  لقد أحطنا القذافي علماً، كذلك، بما ينبغي عليه أن يتوقعه من جانبنا وبالمقابل ما نريده نحن منه، وكيف أنه، في الوقت المناسب سوف يزود من قبلنا ببرنامج وخطط لكيفية سيطرته على زمام الحكم في البلاد (ليبيا). وكيف أنه، هذا المخطط يحتوي على أسماء لأشخاص يمكنه أن يثق بهم وأن يعتمد عليهم، وكيف يمكنه أن يختبر الأشخاص الذين لا يثق في ولائهم نحوه، ومن هم أعداؤه. كذلك فقد قدمنا له النصائح والتوجيهات بشأن التوقيت (الذي ينبغي أن يتحرك فيه) وأهداف التحرك، ومصادر التمويل وحتى التأييد المادي إذا ومتى احتاجه. لقد كان لدينا مسبقاً فريق جيد في ليبيا. وكان هذا الفريق يعرف البلاد عن ظهر قلب.
ما الذي كنا نريده مقابل كل ذلك ؟
  لقد بيّن له كرايسكي أننا، من وقت لآخر، سوف نقدم له بعض المقترحات أو نطلب منه بعض الخدمات وسوف لن يعود أي من هذه المقترحات أو المطالب بأذى أو ضرر على ليبيا. كل الذي قد تعنيه هذه المطالب هو إغاظة أعدائنا المشتركين وإصابتهم بالإحباط.
   جاء أول طلب جاد من جانبنا للقذافي أثناء حرب عام 1967 عندما كان القذافي أمراً لمجموعة صغيرة من القوات المسلحة الليبية التي كان مقرراً لها أن تنضم إلى جانب القوات المصرية لمواجهتنا على قناة السويس. كان طلبنا من القذافي هو أن يؤكد على عدم ذهاب هذه القوة وانضمامها إلى الجيش المصري. لم يعن هذا الطلب، من الناحية المادية أو العسكرية، أي شيء بالنسبة لنا كنا قد كسبنا الحرب من الناحية الفعلية حتى قبل أن تبدأ جماعته في التحرك. ولكن الأمر الذي كان يهمنا هو معرفة كيف سيكون رد فعل القذافي ومدى تجاوبه في مواقف مثل هذه.
  لقد استجاب القذافي لما طلبناه منه. بعد ذلك عرفنا أنه كان جديراً بكل المجهودات  التي بذلناها من أجله، ومنذ ذلك الحين بدأنا نعمل بصورة جدية من أجل استيلاء القذافي على السلطة في ليبيا.
  لم تكن الأمور دائماً سهلة، لأنه تبين لنا فيما بعد أن شخصية القذافي كانت                          من النوع الذي يمكن وصفه "الشخصية العاكسة" أو "شخصية المرآة" (MIRROR PERSONALITY)، بمعنى أن يميل دائماً إلى أن يعكس شخصية وصفات الشخص الذي يكون برفقته في لحظة ما. فعلى سبيل المثال فإن كرايسكي شخصية حيوية، ورجل دولة شديد الاعتداد والثقة بنفسه، وعندما يكون القذافي في معيته فإن (أي القذافي) يبدو كذلك ذو شخصية قوية. وعندما يعود إلى صحبة زملائه من الليبيين فإنه يعود متردداً وغير واضح مثل بقية هؤلاء الزملاء.
   لم نعرف هذه الحقيقة عن القذافي إلا بعد أن وصلنا معه إلى نقطة اللاعودة. ولحسن الحظ أنه أثناء قيام الانقلاب لم يكن هناك ليبي واحد لديه الروح الكافية لمقاومة "المسرحية الهزلية" للثورة. إذ لو كانت هناك أيّ مقاومة لانهارت هذه الثورة وتحطمت بكل سهولة كبيت من ورق. وعليه، فقد حبسنا أنفاسنا لمدة أسبوعين، حيث كنا على يقين بأن القذافي ورفاقه القليلين سوف ينهارون ويفقدون أعصابهم ويفرون إلى الصحراء. كان همنا الرئيسي الوحيد ومصدر قلقنا أن من يتقلد الأمور بعد القذافي سوف لن يكتشف أننا وحدنا فقط الذين قدمنا له المساعدة بل والأسوأ من ذلك، أن يكتشف أن القذافي كان قد تلقى كذلك المساعدة والتأييد من "أرموند هامر"*..
   كنا نعتبر تخلينا وتنازلنا عن آبار النفط في سيناء (المحتلة) بمثابة لطمة كبيرة لنا، ذلك أن إسرائيل أخذت تنظر لشركة "أوكسيدنتال" على أنها شركتها الوطنية للنفط.
  كانت مساعداتنا للقذافي بمثابة مقامرة كبرى، ولكنها كانت ذات فوائد عظيمة لنا. لقد كان من بين أهم ما جنيناه من وراء وقفتنا خلفه، هذه الصراعات والنزاعات التي نجح القذافي في خلقها والعداوات التي أشعلها بين الدول العربية المختلفة" وفيما بين الجبهات الفلسطينية بالذات" .
   لقد ثمّن رئيس الجهاز (الموساد) هذا الدور للقذافي عالياً إلى درجة أنه أصر على إعداد ورقة خاصة تتضمن برامج وتوجيهات لمثل هذه النشاطات مستقبلاً. وعلى العموم، فنحن في غاية الرضا عن علاقتنا مع القذافي، على الرغم من أنك عندما تتعامل مع العرب، فإنك لا تستطيع أن تكون على يقين من أنك الذي تراوغ العربي وليس هو الذي يراوغك. وفي الوقت الحاضر فإنه لدينا عدة مشاريع يتوقف نجاحها على مدى تعاون القذافي معنا.
  المشروع الأول منها يتعلق بمضاربة ضخمة في النفط نزمع القيام بها أثناء اللقاء القادم  لمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبيك) وذلك فيما لو قام أصدقاؤنا في ليبيا بإخطارنا مسبقاً بوقت كاف.
  أما المشروع الثاني فهو ذو أبعاد ذات حساسية سياسية، ويتعلق بتصفية أحد القادة الدينيين المزعجين في بيروت. وإذا نجح القذافي في هذه العملية الأخيرة فإنه يكون حقاً قد استحق جائزته.**. ( أنظر ذاكرة الأيام حول نفس الموضوع)
  بالطبع فإن هناك محاذير ومسؤوليات تحيط بمسألة التعامل مع مثل هذا الشاب الثائر الملفت للنظر. من ذلك أنه إذا ما ذاع السر بأننا نحن (الموساد) هم عرابوه ونقف من ورائه، فإنه لا يستبعد أن يقوم رفاقه بشنقه.
  وفي هذه الحالة فإنه يتعين على الإسرائيليين أن يضعوا قضباناً من الحديد على نوافذ "الموساد" وأبوابها، كما يتعين عليهم تزويد كل واحد منا بـ "سترة المجانين".
  وفي واقع الأمر وبكل جدية، فإن القذافي سيلقي حتفه ويقتل ذات يوم، وفي هذه الحالة، وبدون وجود القذافي الذي نعتمد عليه في زعزعة العالم العربي وعدم استقراره، فإن مستقبل إسرائيل سوف لن يكون واعداً كما هو الآن. ومن ثم، وعلى الرغم مما يبدو في هذا الأمر من غرابة فإننا سوف نواصل مساعينا من أجل حمايته من أي محاولة تستهدف حياته.
  بالطبع لدينا "أصدقاء" عديدون منتشرون بين جيراننا، ولكن لا أحد من هؤلاء يمكن مقارنته، من حيث فائدته لنا، بـ "الأخ العقيد".

ليست هناك تعليقات: