بعض
السم ، في دسم الجمعيات الخيرية !
الجزء الاول :
محمد بشير البرغثي
محاسب ومراجع قانوني
الجزء الاول :
إن
المواطن لينظر بعين الرضا والإمتنان عندما يجد أهل البر والإحسان يتسابقون إلى
تكوين الجمعيات الأهلية لعديد الأغراض الإنسانية ، ويتافسون في سداد رسوم
اشتراكاتهم فيها طوعاً وبانتظامٍ ومن دون تأخير ، فتكونت جمعياتٌ للمكفوفين وأخرى
للمعاقين وغيرها لذوي الإحتياجات الخاصة ولا ننسى جمعية الهلال الأحمر ، وعند
انبلاج فجر ثورة 17 فبراير المجيدة تنادى عديد المواطنين رجالاً ونساءً شيباً
وشباباً لتكوين جمعيات خيرية هدفها توفير حاجات الثوار من مأكل ومشرب بل ومن سلاح
وذخيرة إن توفرت لدى الجمعية القدرة على جلبهما فضلاً عن تقديم العون للنازحين ما
كان له أثر إيجابي في نفوس المقاتلين والنازحين وشكَّل عاملاً مساعداً في إنجاح
الثورة وتحقيق أهم وأسمى هدفٍ لها وهو إسقاط الطاغية ، وذلك من دون شك جهد طيب
يُحفظ لتلك الجمعيات ويُحسب لها ، وتجاوز ما اضطلعت به بعض الجمعيات من مهام ما
أُتيح لها من تمويلٍ ناتجٍ من اشتراكاتِ أعضائها نتيجةً لما حصلت عليه من تبرعات
وإعانات وما تأَتَّى لها من عوائد نتيجة استثمارها لتلك الموارد ، فليس زاد
الجمعيات الخيرية هو الإشتراكات المحصلة من أعضائها فهذه الإشتراكات لا تكفي لسداد
الحد الأدنى من مصروفات التسيير ، بل إن زادها الحقيقي هو ما تحصل عليه من تبرعات
وهبات تتلقى بعضها ممن يريدون جزاء الحسنة بعشرة أمثالها ويؤمنون بواجب نصرة
المظلوم وحق الفقير والمحتاج على الموسر ، وقد نالت الجمعيات الخيرية في ليبيا
جميعها نصيباً من عطاء المحسنين التواقين لنيل الجزاء من عند الله عز وجل ، بل
إنها حصلت من الخزانة العامة والمؤسسات العامة على أموالٍ نقدية وعينية كثيرة ،
وبعضها تلقى دعماً من مواطنين مهاجرين ومن جمعياتٍ أهلية وجهات اعتبارية من خارج
الوطن ، ولعل جمعية الهلال الأحمر الليبي هي أفضلُ مثالٍ على ما أتيح للجمعيات
الأهلية في ليبيا من إعانات وتبرعات من داخل ليبيا ومن خارجها فحجم استثمارات هذه الجمعية وانتشار فروعها
يدعم القول أن ما حصلت عليه هذه الجمعية من هبات وإعانات وتبرعات من خارج الوطن هو
من دون شك كمٌّ ملموس .
والواقع
أن ظاهرة تكوين الجمعيات الأهلية للاغراض الإنسانية ليست ظاهرة ليبية ، بل هي
ظاهرة عالمية ، فالإنسان أياً كانت ديانته أو قوميته مجبولٌ على حب فعل الخير ، بل
إن بعض الجمعيات الخيرية تتجاوز أنشطتها حدود الدولة التي تأسست فيها ، وجمعيات
الهلال والصليب الأحمر الدوليين وأطباء بلا حدود هي أمثلة على ذلك .
ومع
نُبل المقاصد من وراء تكوين الجمعيات الخيرية فلا يمكن افتراض حسن النوايا ولا
يمكن استبعاد أصحاب النوايا السيئة الذين قد ينحرفون بهذه الجمعيات عن أهدافها
النبيلة ، ومن أجل ذلك سنَّت جُلُّ دول العالم تشريعاتٍ تنظم تكوين وإدارة تلك
الجمعيات ومراقبة سير أعمالها ، ولم تكن ليبيا استثناءً فأصدرت القانون رقم 111
لسنة 1970 بشأن الجمعيات الذي نظَّم تكوين الجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح
وحدَّد موارد تمويلها فيما تحصل عليه من اشتراكات أعضائها وما تحصل عليه من إعانات
أو تبرعات أو هبات أو وصايا لا تتعارض مع أغراضها ولا تنحرف بها عنها، فأوجب
القانون في المادة 4 منه أن يتم تضمين
نظام تأسيس الجمعية بيان الموارد المالية للجمعية وكيفية استغلالها وطرق التصرف
فيها ، كما أوجب كذلك في المادة 15 منه أن تحتفظ الجمعية بالسجلات والوثائق
والمكاتبات الخاصة بإدارة الجمعية ، وأن تُدون في سجلاتها جميع التفصيلات المتعلقة
بالمصروفات والإيرادات بما في ذلك التبرعات التي حصلت عليها ، مع بيان مصدرها ،
كما نظم القانون أيضاً آلية تقديم خدمات هذه الجمعيات لمن هم في حاجة إليها من
أفراد المجتمع من دون مقابلٍ في الغالب أو بسعر التكلفة في بعض الأحيان ، بل إن
القانون لم يطلق العنان للجمعيات في السعي وراء جمع موارد التمويل فأوجبت المادة
21 منه عدم جواز جمع تبرعات عينية أو نقدية لغير تحقيق الأغراض التي تم تكوين
الجمعية من أجلها ، كما اشترط الحصول على ترخيصٍ من الوزير قبل بدءِ حملة جمع
التبرعات بشهر على الأقل ، ولئن أجاز القانون للجمعيات استثمار موارد تمويلها في
أنشطة قد ينجم عنها تحقيق أرباح فذلك لا
يعني أن تعمد الجمعية إلى السعى وراء الحصول على موارد تمويل للإستثمار بقصد تحقيق
الربح ، وفيما لو حققت الجمعية أرباحاً جراء استثمارها موارد تمويلها فليس لها أن
تتصرف فيها في غير المناشط المصرح لها بها ومن دون استهداف الربح ، ومع ذلك فإن
بعض الجمعيات الأهلية الخيرية توسعت في أنشطتها الإستثمارية ، فعلى سبيل المثال ،
تحولت بعض الجمعيات الخيرية عملياً وعلى مرأى ومسمعٍ من المجتمع ومن دون أدنى
غضاضةٍ أو استنكار ، إلى مؤسسات تجارية تدير المصانع ومصحات العلاج والإيواء
وصيدليات الدواء ومراكز استيراد وتوزيع المستلزمات الطبية وغير ذلك من الأنشطة
التي وإن وافقت من حيث الشكل الأغراض الإنسانية التي تكونت الجمعية من أجلها فإنها
من ناحية المضمون تخرج عن إطار الخدمة المجردة عن غاية تحقيق الربح ، بل إن بعض
الجمعيات التي حظيت بالإعفاءات الضريبية والجمركية تقدم خدماتها بأسعار لا تختلف
كثيراً عن أسعار السوق ، ليس ذلك فحسب بل إنها في بعض الحالات تُقدم خدماتها على
أسس انتقائية للزبائن ، فتتعاقد مع المصارف وشركات النفط لتوفير خدمات الرعاية
الطبية لمنتسبيهم ، أما عامة الناس الأكثر حاجة للخدمة الإنسانية المجانية أو على
الأقل الخدمة بالمقابل الرمزي فلا يجدون سبيلاً إلى ذلك ، فأين ذلك من مراعاةِ الأهداف
الإنسانية السامية التطوعية الحيادية التي قامت عليها تلك الجمعيات ، ليس ذلك فحسب
بل إن بعض الجمعيات تستعين على إدارة أعمالها بعناصر غير وطنية مقابل مرتبات عالية
من دون ضرورة تقتضيها طبيعة المهام الخيرية التي تأسست من أجلها ، وأكثر من ذلك توسعت
أوجه استخدامات أموال بعض الجمعيات فشملت الإستثمار في أسهم رؤوس أموال المصارف
التجارية الربوية لكأنها ستستعين بعوائد الربا لتنفيذ مهام خيرية إنسانية لمصلحة
الفقراء والمحتاجين .
البقية في الجزء الثاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق