الاثنين، فبراير 13

كتابات من الوطن

(( غنيمــــــــــة ))

 

بقلم : د. فوزي بن عمران

الخبير بالمدن الليبية يعلم أن هناك قرية صغيرة اسمها (غنيمة) تقع على مقربة من مدينة الخمس على الطريق المؤدية إلى (طرابلس). لا أدري لماذا أطلق عليها هذا الاسم. لم يسبق أن سألت أحد سكانها أو غيرهم عن أصل تسميتها؛ على الرغم من مروري عليها عشرات المرّات خلال رحلاتي الكثيرة إلى طرابلس في سنوات خلت. ولكن على كل حال، مهما كان السبب وراء التسمية، فليست (غنيمة) القرية هي المقصودة بهذا العنوان، لا من حيث الاسم ولا من حيث المضمون.
المقصود في هذا المقال ثقافة (أخذ الغنائم) التي ربما تعوّد عليها الإنسان منذ الأزل بسبب الحروب والغزوات قبل أن تنظم الأديان والقوانين المجتمعات الإنسانية، وتردعها عن تلك النزوات الحيوانية.
ولا شك أن معظم الليبيين يعرفون كلمة (ياغما)، فقد لُيبت هذه الكلمة؛ واشتقت منها أفعال، فيقال: وغّم، ويُوغّم. أصلها من اللغة التركية؛ والعجيب أن الأتراك لديهم ثلاث مترادفات لكلمة (غنيمة)، فيقال (ganimet) و(yağma) و(çapul). وعندما اندحر الإيطاليون في نهاية الحرب العالمية الثانية كثير من الليبيين (وغموا) مقتنياتهم وأملاكهم، وكما يقول المثل: اللي سبق لبق!
وربما نشأت ثقافة الغنيمة عند أفراد من الشعب الليبي على مدى العصور بسبب تسلّط المستعمرين على أرض ليبيا، فكانوا يعتبرون أن أملاك المستعمر مستباحة، إما لاعتقادهم أنها في الأصل أموال بلدهم التي اغتصبها المستعمر، أو لاعتقادهم بظلم المستعمر، أو لأنهم يعتبرونه ببساطة (الآخر)؛ وبهذا يستباح ما لديه. أيضاً، ثقافة الاستيلاء على مال الآخر ربما توارثها الناس من أسلافهم الجاهليون قبل الإسلام، فقد كان العرب قبل الرسالة يقطعون الطرق وينهبون المستضعفين ويغزون الآخرين دون ذنب اقترفوه.
وبعد استقلال ليبيا، وعلى مدى ثماني عشرة سنة استمرت ثقافة (الغنيمة) على الرغم من قيام المؤسسات القانونية، فاستباح الناس المال العام، وأثرى كثير من المسؤولين عن طريق الاستيلاء على مال الدولة، إما مباشرة أو عن طريق العمولات التي لو كانوا قابعين في بيوتهم لما (غنموها)، وكان البعض يعبّر عن استباحة المال العام بقوله: رزق حكومة ربي يدومه.
وبعد انقلاب سبتمبر المشؤوم عمل العقيد المقبور على تكريس ثقافة (الغنيمة) عندما أطلق شعاراته الإجرامية مثل (البيت لساكنه)، و(السيارة لمن يقودها)، و(شركاء لا أجراء)، فبدلاً من أن تبني الحكومة المنازل للناس وتُملكها لهم بأسعار رمزية، أمرهم باغتصاب أملاك الآخرين والسكن فيها، وبدلاً من توفير سيارات الشحن والمقطورات للسائقين بالتقسيط المريح، أمرهم بالاستيلاء على سيارات الآخرين التي كانوا يعملون عليها، وبدلاً من إنشاء مصانع وتمليكها للمواطنين، أمر العمال الذين وظفهم صاحب المصنع بأن يستولوا على المصنع ويطردوا صاحبه. بطبيعة الحال؛ كون العقيد المقبور مجرماً لا يبرئ ساحة من اغتصب سيارة غيره أو منزل غيره أو مصنع غيره، فهو لم يضربهم على أيديهم ليفعلوا ذلك. فإذا المتكلم مجنوناً، على السامع أن يكون عاقلاً.
وبعد ثورة 17 فبراير المجيدة، وقبل أن تجف دماء الشهداء والجرحى، بادر المنافقون باتخاذ النهب والسلب وسيلة للثراء ومنهاجاً للتربّح والتكسب. لم يمض على الثورة أسابيع حتى علمنا من رئيس المجلس الوطني الانتقالي أن اختلاسات مالية كثيرة وكبيرة ارتكبها مسؤولون في السلطة الجديدة. الغريب أننا لم نسمع حتى هذه اللحظة بأن أحداً حوكم على هذه الخيانة العظمى.
أوصلتنا ثقافة (الغنيمة) إلى مرحلة (السمسرة) في علاج الجرحى، فانبرى بعض الليبيين وتولوا مهمة تسفير الجرحى إلى الدول الشقيقة والصديقة، فأعطى من لا يملك من لا يستحق. كان لا يهمهم من يسافر ولا يكترثون بكونه جريحاً أم مريضاً أم مجرد سائح انتهز الفرصة، وكما يقول المثل: (يا منهوبة من لهلوبة)، كان كل همهم أن يسافر أكبر عدد من الليبيين، لأن مكسبهم كان يساوي حاصل ضرب نسبة العمولة في عدد المرضى. لم يتورعوا عن سرقة أموال الشعب الذي أراد أن يفرح بثورته فلم يجد لذلك سبيلاً.
سمعنا أن بعض الليبيين اتخذوا من باب علاج الجرحى في الخارج فرصة لعلاج العقم وزرع الشعر وشفط الدهون. إن صح هذا فإنها سابقة في مجال (الغنائم) لم نسمع بها في الأولين ولن يعرفها الآخرين. وأنا استغرب أن تسمح وزارتي الصحة والمالية والسفارات في الخارج بهذه الفوضى العارمة.
يُقال أن: (المال السايب ايعلم السرقة)، ولا أدري كيف يسمح المسؤولون بذلك؟ هذه الأموال ملك للشعب الليبي، استأمنهم عليها ففرطوا فيها بعد أن تقدموا طائعين مختارين لحملها.
أما الذين استغلوا الفرصة من غير الجرحى وسافروا للعلاج، سواء من أمراض مزمنة أو لعلاج العقم أو غير ذلك، هؤلاء لا قلب لهم، وهم لا يقلّون إجراماً عن أزلام النظام السابق، وينطبق عليهم قول فولتير: (اللهم احمني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم). لقد زاحموا الجرحى الذين جاهدوا بأنفسهم من أجل تحرير ليبيا، وفقدوا أطرافهم في الحرب ضد كتائب الطاغية، إلى درجة أن جريحاً مشلولاً في مدينة (شحات) يناشد أخاه أن يُطلق عليه رصاصة الرحمة لأنه لم يجد من يهتم به، فقد اغتنم الفرصة آخرون أخذوا مكانه في العلاج بالخارج دون أن تختلج لهم نبرة أو يهتز لهم جنان أو تدمع لهم عين.

ليست هناك تعليقات: