الأربعاء، يوليو 20

حصريا : ذاكرة الايام - الحلقة الثانية


ذاكرة الأيــام (2)

                                                             بقلم: إبراهيم السنوسي امنينه

ذكرنا واستذكرنا في الحلقة السابقة ما سرده ملكنا السابق محمد إدريس السنوسي رحمه الله من أحداث وما وقع له من مؤامرات ودسائس حيكت له من أقرب الأقرباء حسداً من عند أنفسهم، ومن الطليان أيضاً حيث دس له السم وكاد يقضي على حياته، ولكن الله سلمه وأنجاه بحياته وقدرالله وما شاء فعل وكانت البلوى فقط حرمانه من نعمة الأنسال وآخر ما حدث له أن أنكره البعض من شعبه وقلب له ظهر المجن وتناسى كفاحه ونضاله وقيادته لجيشه من أشراف الليبيين من أجل انتزاع استقلال البلاد وتوحيدها من خلال أشرس ملحمة وأعز وأنبل هدف.
وتسعفني في هذا المجال أبيات قليلة استذكرتها لأمير الشعراء أحمد شوقي إذ كان قد قال:
أخا الدنيا أرى دنيـــــاك أفـعى

تبـــدل كل آونة إهـــابا
ومن عجب !!  تشيب عاشقيـــها

وتفنيهم وما برحت كعـــابا
فلم أرى غير حكم الله حكمـــــاً

ولم أرى غيـــر باب الله بابا
نعم؛ فلم يكن يعرف ذلك الراحل الغائب الحاضر إلا  العدل والزهد والخوف والرهبة من الخالق والرعاية الفائقة للرعية، وتروى حكايات عن جنوحه للعدل الذي لا يخاف فيه لومة لائم، ونستطرد في هذه الحلقة بنشر توجيه "ملكي" كان قد أرسله إلى والي ولاية فزان بتاريخ 14 نوفمبر 1961م الموافق 5 من جمادي الثانية 1381 هـ حيث يذكرني هذا الخلق في توجيه الولاة وتأديبهم وتخويفهم من غضب الله وتذكيرهم بدينهم وقرآن الله الكريم وسنّة نبيه وإنذارهم بسوء العاقبة والمصير مذكرهم أن هذا التوجيه والإنذار كان هو الثاني من نوعه لكنهم لم يرتدعوا – يذكّرنا كل هذا بإدارة الخلفاء الراشدين الأربعة والخليفة "الخامس" عمر بن عبدالعزيز  لشؤون البلاد في شتى أصقاعها حيث كان الخليفة منهم يراقب ولاته سواء البعيد منهم في السند أو بلاد فارس أو القريب منهم في مصر أو في الكوفة وحين يبلغه سوء سلوك من الوالي بتقاضي رشوة أو سوء معاملة تخلو من الرأفة بالرعية، ويتأكد له ذلك بما لا يدع مجالاً للشك فإنه يبعث له رسولاً بيده كتاب مختصر يقول:
عندما تقرأ كتابي هذا سلم لحامله ما في عهدتك من مال المسلمين وأمثل أمامي لمحاسبتك بدون تأخير.
هذا ما يذكرنا به التوجيه الذي يقول بالنص:
حضرة السيد المحترم والي فزان / سبها
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
لما كنا نحرص دائماً على سلامة الأداة الحكومية – اتحادية وولائية – فكلما خلا أفرادها- رؤساء ومرؤوسين – من الشوائب. وسلكوا سلوكاً حسناً مستقيماً يرضي الله ورسوله كلما قطعت الدولة شوطاً بعيداً في التقدم، وكان ذلك من علامات رقيها وعنوان عظمتها. كما أنا نعتقد أن سلوك الرؤساء يعد مثالاً يحتذى به المرءوسون وأفراد الشعب الكريم.
على أننا لاحظنا في الآونة الأخيرة ظاهرتين تستوقفان النظر...
الأولى:  إقبال جمهرة كبيرة من الموظفين المسلمين في الدولة على تناول الخمر يغشون الحانات والمحال العامة لشربها جهاراً الأمر الذي تحرمه الشريعة السماوية – الدين الإسلامي الحنيف- كما تمنعه القوانين الوضعية في البلاد.
وجاء في القرآن الكريم من آيات الله البينات.." يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتتنبوه لعلكم تفلحون".
كما ورد في الأحاديث الشريفة.. " من الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل شراب أسكر فهو حرام" وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مسكر حرام أن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال قال عرق أهل النار أو عصارة أهل النار" وعن وائل الحضرمي عن طارق بن سويد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه فقال إني اصنعها للدواء فقال ليس بدواء ولكنه داء" .
ثانياً: وهي ظاهرة لا تقل خطراً عن الأولى " تفشي الرشوة بين صفوف الموظفين حتى عمت الكثير منهم كبيرهم وصغيرة – ولا يخشون وازعاً من دين أو ترهبهم نصوص ما وضع من القوانين مما يزعزع الثقة في الجهاز الحكومي.
فإلى إولئك وهؤلاء وجهنا منذ بضعة شهور رسالة لتحذيرهم من مغبة ما يفعلون وما هم فيه منغمسون – وكنا نأمل أن يكف الجاني يتوب العاصي ويتحول الطالح إلى صالح ولكن لم نلمس تقدماً ولا زال الداء يستشري فمن أجل هذا نأمر باتباع ما يأتي:ـ
1- يمنع منعاً باتاً تقديم أي مشروبات روحية في الولائم والحفلات الرسمية التي تقيمها الحكومة – كما يحرم على أي مسئول تناول أي منها فيما يدعي إليه من ولائم حفلات.
2-  تطبق بكل دقة التشريعات والنصوص الخاصة بالمسكرات والرشوة وتتخذ اشد الإجراءات للضرب على أيدي المرتشين وينبه على رجال البوليس باليقظة التامة في هذا الشأن وعدم التقاعس في أداء واجبهم.
هذا وستعتبرون و الوزراء مسئولين أمامنا- كل في دائرة اختصاصه عن المراقبة والتنفيذ بصورة مستمرة وفعالة.
وإنا نأمل أن تبذلوا كل جهد في هذا الشأن على أن يكون مفهوماً بأن كل مقصر أو مخالف سيؤخذ في غير لين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد إدريس المهدي
طرابلس 5 جمادي الثانية 1381 هـ
الموافق 14 نوفمبر 1961م
صورة طبق الأصل

 

سبق وأن روينا شيئاً عن قصة أغتيال ناظر خاصته الملكية إبراهيم الشلحي عندما حكمت المحكمة بإعدام القاتل الذي كان يدعي أحمد الشريف محي الدين أحمد الشريف السنوسي وهو حفيد ابن عمه وابن أخ زوجته فاطمة رحمها الله.
إذ قام بالتصديق على حكم الإعدام – إن لم يكن قد أمر القاضي بضرورة إصدار الحكم بالموت – ذلك خشية أن يبحث القاضي عن ثغرة أو مخرج في القانون لإنقاذ الجاني من القصاص – إرضاء منهم للملك حالة كون الجاني ينتمي إلى العائلة السنوسية وابن أخ الملكة.

وفي هذا السياق لا زلت أذكر كيف أمر الملك رحمه الله بإبعاد محامي  يدعي " فهيم الخير"، وكان قد حاول في دفوعه تبرئة الجاني بالركون إلى ثغرة في إجراءات الإحالة إلى النيابة، وكاد ينجح في ذلك، غير أن الملك تدارك الأمر وتدخل وأمر بإبعاد ذلك المحامي ، وأمر المحكمة المختصة بعقد جلسة عاجلة وتداول الدعوى بحضور محامي آخر فوراً وصدر الحكم وتم تنفيذه في موعده بدون تأخير وقد كان.
ومن المضحك ومن دواعي السخرية أن هذا المحامي  كان قد عاد إلى ليبيا حينما أصبحت "جمهورية" بعد انقلاب سبتمبر 1969، "وبعد أن هزلت حتى بدت منها كلاها وسامها كل مفلس"، وكرّمه " الفتية " وفتحوا له مكتباً وسهلوا له إجراءات الرخصة لكي يزاول مهنة المحاماة، غير أنه لم يطل به المقام في "الجمهورية الجديدة" وعبر عن رغبته في مغادرة البلاد، فسأله بعض رفاق المهنة عن السبب في مغادرته فقال:
" البلد ما فيها إلا محاماة شعبية ما توكل عيش". وغادر بنغازي.......
وكان ذلك التصديق على حكم الإعدام بحق أحد أقربائه أول وآخر تصديق على حكم إعدام، وحيث اعترف الجاني بجرمه، والاعتراف سيد الأدلة، ومن قتل يقتل، ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب.
وبعد سنوات قليلة رفض التصديق على حكم بإعدام اثنين من مواطنيه كانوا قد فجروا خزانات للنفط في ليبيا بتحريض من تيار مجاور و مراهق يطلب التوسع والشهرة الرخيصة، وأمر بتخفيض الحكم إلى السجن المؤبد ثم لم يلبث أن أصدر مرسوماً ملكياً بالعفو عنهما بعد ذلك بزمن قصير بمناسبة حلول عيد الاستقلال.
ومن سخرية القدر ومن مهازل وقائع التاريخ أنه عند انقلاب سبتمبر 1969، انضم أحد الاثنين المفرج عنهما بعد أن كرمته عصابة الإنقلاب وألبسوه " بدلة شغل – يعني عفريته" وربما منحوه رتبة فخرية، وسيارة " جيب – شامب" وأجروا له معاشاً شهرياً، واسندوا إليه بعض مهمات صحرواية مشبوهة حالة كونه خبيراً في هذا الشأن الجغرافي، ولأنه كان يساعد المملكة " أيام كانت دولة " في تهريب الأسلحة، بعد شرائها، للجزائر المجاورة لنا في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي أيام النضال الشريف أيام كفاح جبهة التحرير الوطني الجزائري بقيادة وطنيين أفذاذ حقيقيين مخلصين أمثال بن بيلا وبومدين ومحمد خيضر           ومحمد بوضياف ولكن ليس أمثال عبدالعزيز بوتفليتة
 ذيل الجنرالات في الجزائر المرتشين من قبل المشعوذ عميل الموساد، نظير أن يستلم منهم السلاح الثقيل والآليات والراجمات وفوق كل هذا كله المرتزقة من الشعب الجزائري المغرر بهم.   
  أقول أنه من سخرية القدر فإن هذا المحكوم المفرج عنه (م.هـ.) بعد أن طغت شهرته وعمت الآفاق بطولته خشي الانقلابيون من سرقة "الثورة" منهم وكذلك الأضواء والكاريزما التي كانوا يتوهمون أنهم قد حققوها لأنفسهم. فإنهم قاموا باغتياله في ظروف غامضة بعد أقل من حوالي شهرين من استقطابه وانضمامه إليهم.
عود على بدء:
عندما صدر ذلك  المرسوم الملكي بمناسبة عيد الاستقلال يم 24 ديسمبر، كان ذلك عفواً عند مقدرة مثلما كان يوم صدور حكم بالإعدام على نفس الشخص حينما خففه إلى المؤبد قبل ذلك بسنوات تعد على أصابع اليد الواحدة، وكان من سمات أخلاقه العدل والقصاص من الجاني ولو كان ذا قربى حين صدّق على الحكم بإعدام ابن أخ زوجته وحفيد ابن عمه قبل ذلك بعدة سنوات وبالتحديد في العام 1954م.
كان دائماً رحمه الله يتمثل قول أبي العلاء المعري في اللزوميات:
أيا دار الخسار ألا خلاص          فأذهب للجنوب أو الشمال
وظلم أن أحاول فيك ربحاً           ولم أخرج إليك برأسمـال
استذكرت ما جرى لهذا الولي الزاهد، وكيف فقد عرشه ومن استلبه منه ومن سرق منه رعيته في ليلة غبراء، وما حدث لهذه الرعية بعد ذلك من تعذيب وتغييب وتقتيل وتنكيل ونفي وتجهيل، نكتشف بعد أن عاد إلينا الوعي أن الذي فعل كل الأفاعيل والمكائد والجرائم التي يستحي منها شياطين الإنس والجن، ما كانوا إلا شرذمة من الأراذل التافهين العاقين الأفاقين الذين لا أصول لهم ولا عهد ولا دين ولا أخلاق ولا أعراق، وما كان لأحد في ليبيا التي أبتليت منذ العام 1551م باحتلال عثمان وقرمان إلى طليان وبريطان وأمريكان وقبل ذلك بعهود يونان ورومان أقول ما كان لأحد أن يصدق حدوث هذا الحادث الأليم ذي الوقع الجسيم لأن الذين قاموا به ما هم إلا شرذمة من صغار الأشرار من غير القادرين على القيام بأعباء هذا العمل من دون تخطيط وتمويل ومساندة من جهات أجنبية بيننا وبينهم عهود ومواثيق نقضوها وغدروا بالراعي والرعية في ليلة ظلماء افتقد فيها بدر السماء. واستحضرت أيضاً كيف خانه أحد المقربين إليه والذي ترعرع في كنفه والذي من أجله ومن أجل ذكرى والده الذي اغتاله أحد أفراد العائلة السنوسية من أبناء عمومته، بعد أن أعدم القاتل شرد باقي الأسرة السنوسية ونفاهم إلى جنوب البلاد، ذلك الخائن هو العقيد عبدالعزيز إبراهيم الشلحي، رئيس أركان الجيش الليبي
 عندئذ الذي كان يعلم بخطط المشعوذ للاستيلاء على البلاد ولم يعر لذلك أهمية لأنه هو الآخر كان قد وضع خططه لذلك وحدد لها موعداً هو 5/9/1969م غير أنه لم يعلم بالأمر الذي صدر من الغرب والموساد ومن مستشار النمسا برونو كرايسكي في ذلك الوقت، وهو عرّاب المشعوذ بأن يسرع هذا الأخير بالانقلاب قبل أن يقوم به عبدالعزيز الشلحي قبل ذلك بخمسة أيام أي يوم 1/9/1969م، وقد كان ما كان.
ويحضرني هنا قول الشاعر الليبي في زجله:
 ياما جرا وياما طرا وياما أيريد أيسير
مو أمغير خونتهم إقلال الخير 
 خوّان الدهر !! كنّك هبل؟
 مضروب عالدنيا من قديم الطبل
  اتصاحبلها إنخونك إتجي داغرة عليك إتغير  
كمين ناس عزوتهم فلوس، وكثرة ، وعقل
خلتهم الدنيا في شقا وتكدير
إن كان الدهر عاكسك طيعه
راهو أنفيت ما الله ينصرك
مالك عليه نصير
ويا ما جرا وياما طرا وياما أيريد ايسير
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة ذاكرة الأيام حيث نتعرف على هذا "الشبح" الذي فعل بنا كل هذه الأفاعيل: من هو وكيف جاء ؟ ومن أتى به؟.

إبراهيم السنوسي امنينه

تابعوا الحلقة الثالثة من ذاكرة الايام : قريبـــا

ليست هناك تعليقات: