الجمعة، يوليو 22

ابداعات عن مبدع

طرنيش.... النبيل
                                                               عزة كامل المقهور


عزة كامل المقهور كان آخر لقاء بمكتبي.... في أوائل شهر فبراير من هذا العام...مع الأستاذ محمد العلاقي المحامي، والصحفي نعيم العشيبي. كان آخر من حضر... بوجهه  الصافي، و إبتسامته المطبوعة على وجهه التي تسبقه، ودماثة خلقه الباديه في حركات يديه. انصب الحديث في ذلك اليوم على توقعات يوم 17 فبراير، ولم يدر في خلد أي منا أن الأحداث ستسبق كل التوقعات وستكون يوم 15 فبراير. خرجنا معا، واوصلتهم حتى الباب الخارجي ونحن نتحدث ونضحك، صافحتهم ... وانفرط العقد منذ ذلك اليوم.

طرنيش...ربع القامة، مليء، ترتسم على صفحة وجهه علامات الارتياح والطيبة... دائم الابتسام... إلا أن اهم مايميزه سخريته.. تلك السخرية الليبية الصميمة. كان سريع البديهة...تفلت منه بين الحين والآخر جمله الساخرة ثم يقهقه ويهتز كل بدنه...تكشف شفتاه عن اسنان لبنية صغيرة... عيناه عسليتان حد الإصفرار، شعره خفيف يشوبه بياض وقور.

كتب المقالات الساخرة المليئة بتفاصيل هموم المواطن الليبي، وسخر من كل شيء حتى من نفسه.. أتذكر مقالة له نشرت في صحيفة "الشط" التي رأس تحريرها لفترة وأستطاع بحنكته الصحفية وجديته أن يستقطب أفضل الأقلام اليها - رغم محليتها- وأن يجعل القراء يتهافتون عليها رغم الظروف الشاقة لهذه المهنة.... كتب في مقاله ذلك عن دراجته "البيانكي" التي كان يسندها على حائط أحد ازقة المدينة القديمة ويتفاخر بها أمام الطرابلسيات المختالات أمامه....وكيف كان جزاؤه من والده بعد أن انكسرت!

وكتب عن الشفافية في ليبيا تحت عنوان يقول " زغردي يا ليبية"...
أشتهر بقفشاته السريعة والذكية.. أتذكر في نهاية العام الماضي حين طرح صحبة العلاقي التقرير السنوي لجمعية حقوق الإنسان في مؤتمر صحفي، انتقد احدهم التقرير وقال أنه لا يصدر بشكل دوري"، فرد عليه طرنيش... قد لا يكون دوريا، لكنه على الأقل ليس وردياً، فضجت القاعة بالضحك.

يلتهم القراء مقالاته ويطاردونها كما يطارده المسؤولون من صحيفة إلى أخرى.. حتى أوصلوه إلى عتبة السجن بتهمة التشهير واوقفو قلمه عن الكتابة... وظل مبتسما... وعاود الكتابة...  سخر من كبار القوم... لم يحتملوه، وهو الطيب الوقور، الصديق الصدوق... دسوا له السم في العسل....لكنه شرب العسل ولم يمته السم أو يوجعه.

يذكرني "طرنيش" بعمالقة الصحافة المصرية.... مخزنا للأسرار، عارفا بما يدور حوله... ما أن يفتح خزانته حتى تتدافع الحكايات وتتزاحم الوقائع لتصبح مسرحيات وروايات... وحين يقرر التوقف يقفل خزانته ويضب مفتاحها في جيبه ويرحل. كان يجلب القراء للصحف وليس العكس.

يزورني... ببساطته المعهوده... في يده نقاله الذي لايتوقف عن الرنين، يستمع للموجوع والمظلوم والمنتهكة حقوقه.... للمنتقد برحابة صدر، ولأصحاب المطالب التي لا تنتهي....اتصالات من داخل الوطن وخارجه، لا يمل ولا يكل... أقول له " ما بعدك... يا أستاذ محمد" فيرد بتواضع جم " الله غالب.... أهو نحاولوا".

عمله التطوعي في جمعية حقوق الإنسان شكل علامة فارقة... يعمل بصمت ولا ينسب لنفسه أية نتائج.  لا يمكن لأحد أن ينكر أو يجحد ما قدمه "طرنيش" للسجناء السياسيين والمعتقلين... خاض في مستنقع أبي سليم وغيره من مستنقعات انتهاكات حقوق الإنسان، حكى لي أنه حين طالب برفع قيمة التعويضات، قال له أحد ضباط الأمن الحاضرين في احدى الإجتماعات "أنت تطالب برفع القيمة لأنك سجين سابق"، فرد عليه محمد طرنيش " أنا لن اتقاضى منكم درهما واحد.. سنوات عمري في سجونكم لن تعوضها أموالكم..."

استمات لأشهر في مفاوضات للسماح للمعتقلين بزيارة اهاليهم وقال لي انه عانى الكثير من منع الزيارات حينما كان سجيناً للرأي لمدة ست سنوات... وأنه يشعر بألم السجناء من عدم تواصلهم مع أهاليهم.

يؤمن بالمجتمع المدني ودوره في مواجهة هيمنة السلطة ونزقها، وأتذكر جيدا ما قدمه للجنة تأسيس "جمعية العدالة لحقوق الإنسان" التي وأدتها السلطة سريعا، من عون حين طلبت منه المساعدة في إيجاد مكان ملائم لعقد أول أجتماع تأسيسي لها ولما واجهناه من تردد في منحنا مقرا لإنعقاد الإجتماع حيث وفر لنا صالة مبنى مدرسة الفنون والصنائع التي كان على علاقة وطيدة بها.

كتب عن المدينة القديمة وعن الشخصية الطرابلسية التي كان يجسدها في كلامه وحركاته وحتى مشيته.....طرابلسي حتى النخاع، بلهجته، وكلماته، وامثاله الشعبية... ومنفتح على الجميع.

رحلت يا أستاذ محمد ومعك مفاتيح خزانتك.... دون أن تفرغها جملة جملة في الجريدة التي طالما حلمت بإصدارها، يتصدرها اسمك... تنبش عن الحقائق وتسطرها دون أن يتعقب أثرك أحد.... تكتب في زاويتك "جنان النوار" عن صرخة المواطن وألمه بسخرية لاذعة.... رحلت قبل أن نلتقي مجددا مع العلاقي وجربوع والككلي والبشتي ونزار ونعيم وغيرهم... نحكي بل حتى نهذي في الهواء الطلق...

رحلت باكرا، قبل أوانك.... كيف ستكون الملتقيات بدونك، كيف سيكون صالون نزار كعوان الأدبي دون أن ترج اركانه بمداخلاتك الجريئة والقيمة، وتلطف اجوائه بتعليقاتك الساخرة.

سنفتقدك.... أسماء وحواء وسالمه وأم العز وفاطمه وخديجة و.... سيفتقدك الرجال... سيفتقدون أخا نبيلا وخلوقا... ستفتقدك المدينة القديمة وسوق الجمعة... أهل طرابلس ... ستفتقدك كل ليبيا وهي تنزع شوكها... شوكة شوكة... حتى تزدهر من جديد... فلن تراها في حلة جديدة طالما رسمتها في كلماتك وتخيلتها على جسدها الذي كاد ان يشيخ... وتمنيت أن تموت فيها وتكفن بأوراق جريدتك المنقوش عليها اسمك، المطبوع عليها مقالاتك التي تحكي حكايات البسطاء، وآلام المظلومين، وأفاعيل الكبار....

إن القلب ليحزن.... وأن العين لتدمع... وإنا لفراقك يا أستاذ محمد لمحزونون.

عزة كامل المقهور
20. 7. 2011

ليست هناك تعليقات: