السبت، مارس 31

اهتمامات الوطن

الأمن وهيبة الدولة ..


 قبل أي حديث عن ديمقراطية وانتخابات

بقلم : د يونس فنوش


يبدو أنه بات من حقنا أن نقول "لقد بلغ السيل الزبى"، فالمؤشرات المفجعة على انحسار هيبة الدولة ووجودها تتكاثر وتزداد خطراً، من خلال عجزها عن التعامل الفعال والعاجل مع الحوادث التي تستدعي وجودها وتدخلها: حوادث الإرهاب والعدوان المسلح على الأفراد والممتلكات، حوادث الخطف والسرقة بقوة السلاح، سيطرة الجماعات المسلحة على ممتلكات الدولة، وعلى منافذ البلاد الحيوية، من معابر حدودية ومطارات وموانئ بحرية، بقاء الجماعات المسلحة خارج سلطة الدولة، وقدرتها الفعلية على فرض وجودها والحصول على ما تريده من مطالب ومغانم تحت التهديد المباشر باستخدام القوة والسلاح، بروز الجماعات ذات الأفكار المتطرفة المتشددة، وتماديها في فرض آرائها بقوة السلاح: هدم الأضرحة ونبش القبور وتهديد النساء على طريقة طالبان أفغانستان، في توجه لفرض منعهن من الخروج وممارسة الحياة الطبيعية، وفرض نوع معين من اللباس عليهن (الحالة القائمة في مدينة درنة مثالاً)..
وإلى جانب هذه المظاهر المتمادية في الاتجاه نحو استخدام القوة وأساليب الإرهاب، من طرف الجماعات المسلحة، نشاهد بألم وذهول كيف يتجسد غياب الدولة وسلطتها، وضعف مؤسساتها القائمة، وعجز رجالها عن فعل ما ينبغي فعله لمواجهة هذه المظاهر الخطرة، إذ نشاهد كيف يواجه المجلس الوطني هذه المظاهر بمواقف في منتهى الضعف والميوعة، فلا يتغاضى عما يحدث، أو يتهاون في مواجهته فحسب، بل يخضع لأنماط التهديد والابتزاز، فيمنح هذه الجماعات المزيد من السلطة، ويغدق عليها المنح والهبات من خزينة الدولة، ويفشل وزيرا الدفاع والداخلية في فرض احترام الأمن والقانون على الجميع، وفي الوصول إلى حلول عاجلة وفعالة مع هؤلاء المنتمين إلى الجماعات المسلحة، في اتجاه الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما: إما الانضواء تحت سلطة الجيش الوطني وقوى الأمن والشرطة، أو العودة إلى الحياة المدنية، كل وفق تخصصه ومهنته الأصلية.
بيد أن الأمور أخذت في الآونة الأخيرة تتطور في الاتجاه السلبي، إلى الحد الذي بات يدفع الكثيرين إلى التساؤل المشروع: هل ما يحدث مجرد أمر طبيعي، نتيجة التحول الصعب من الثورة إلى الدولة، أم أن ثمة من له مصلحة في ألا تستقر الأمور، وأن تظل السلطات الشرعية عاجزة عن بسط سيطرتها وكلمتها على مفاصل الدولة.. ولعل هؤلاء الذين يتساءلون مثل هذه التساؤلات باتوا جميعهم لا يعفون المجلس الوطني، كله أو أطرافاً فيه، من المسؤولية المباشرة عما يحدث؟
ولقد باتت تراود أذهان كثيرين شكوك قوية في أن ثمة أطرافاً لها مصلحة في عرقلة بلوغ الدولة الحد المطلوب من بسط سلطتها وهيمنتها على مختلف مفاصل الحياة في البلاد، وفي مقدمة ذلك السيطرة على منافذ البلاد البرية والبحرية والجوية، لمنع أي تسرب لقوى من الخارج أو انفلات لقوى من الداخل، يكون من شأنها تهديد أمن البلاد والناس، ويواكب ذلك في الأهمية وضع حد نهائي لوجود أي جماعات مسلحة خارج سلطة الجيش أو قوى الأمن الوطني، تحت أي ذريعة أو وصف، فلم يعد مقبولاً أي ادعاء بوجود ثوار خارج السياق الوطني الرسمي، وأخيراً وضع حد نهائي حاسم لوجود السلاح بأيدي الأفراد والعصابات الإجرامية، التي أخذت تمتهن الجريمة المنظمة المسلحة، الاختطاف والسرقة والتهديد.
أما ذلك الملف البالغ الخطورة المتعلق ببروز الجماعات التي تحمل أفكاراً وتوجهات متشددة، تستند، حسب زعمها، إلى اجتهادات معينة في فهم نصوص الشريعة الإسلامية، فهو ملف متعدد الجوانب، لعل أهمها ذلك الجانب المتعلق بالأفكار والاجتهادات المتشددة، وهو بحاجة إلى نمط مختلف من المعالجة والمواجهة، يتجه قبل الانتهاء إلى المواجهة العنيفة المسلحة، إلى البدء في المواجهة الفكرية، من خلال الدخول مع هذه الجماعات في حوار وجدل فكري، عسى أن نصل إلى إقناعهم بما نرى أنه خطأ في تفكيرهم وتأويلاتهم للنصوص والأحكام الشرعية، وفي أقل تقدير أن نقنعهم بعدم جواز لجوئهم إلى استخدام أساليب الإرهاب والعنف لفرض آرائهم على الناس والمجتمع، وأن أقصى ما تتيحه لهم شروط التعايش في ظل مجتمع واحد، هو أن يعبروا عن آرائهم وقناعاتهم بمختلف السبل المشروعة المتاحة، من خلال اللقاءات العامة مع الجمهور، في المحاضرات والندوات، ومن خلال وسائل الإعلام المطبوع والمسموع والمرئي، فعلى هذا الصعيد لهم كل الحق في أن يمتلكوا الرأي الخاص بهم، وأن يعبروا عنه بكل حرية، ما التزموا بآداب الحوار والتخاطب مع الآخرين.
أما إذا ما بقيت منهم فئة تغلق آذانها عن الاستماع إلى الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، وتصر على استخدام العنف والإرهاب والسلاح، فإنها تحكم على نفسها بحتمية المواجهة معها بنفس السلاح والأسلوب، أي أسلوب العنف والقوة. وهو ما ندعو الله –تعالى- أن يجنبنا الوصول إليه..
من هذا المنطلق.. وجدت نفسي أضع هذا العنوان لمقالتي، وأنا أقصد ما يعنيه بكل دقة.. فلا شك أن أي حديث عن تأسيس دولة وديمقراطية، من خلال بوابة التأسيس الديمقراطي عن طريق الانتخابات، قبل أن تتمكن الدولة من فرض هيبتها وسلطتها على كل مظاهر العنف والخروج عن الشرعية الدستورية، هو حديث هراء وترف، بل هو حديث هروب أو تهرب من رؤية الحقائق الفاجعة على الأرض... فسوف يكون من السخف والإهانة دعوة المواطن غير الآمن على نفسه وعرضه وبيته، للخروج للإدلاء بصوته أو المشاركة في انتخابات. فدعونا ننظر إلى الأمور كما هي، ونعترف بما تنضوي عليه من مخاطر وعواقب وخيمة، ونتفق على تدرج الاستحقاقات التي تواجهنا في سلم الأولويات، وهي على التحديد: فرض هيبة الدولة من خلال تقوية مؤسستي الجيش والشرطة، إنهاء مظاهر التسلح خارج سلطة الدولة من خلال حل كل أنواع الميليشيات والجماعات المسلحة، إعادة النظر في تركيبة المجلس الوطني، بما يحقق له الشرعية والشفافية، وإعادة النظر في خارطة الطريق التي نأمل أن تقودنا إلى تأسيس الدولة بالصورة التي نأمل أن نراها تتحقق على أرض الواقع، ونعتقد أنها تستجيب للأهداف النبيلة السامية التي ضحى من أجلها الشهداء

ليست هناك تعليقات: