مختارات: إبراهيم الفلاح
المُواطـَـنـَة ..
وتصحيح المفهوم
بقلم : محمد عبدالله حنيش
للوطـن : الصـّون
و الحماية
للآخرين
: التعايش وحق الفكر وقبول الرأى
للذات
: اقتران
الحقوق بالواجبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول:
المواطنة هى البرهان العملى لانتماء الإنسان لبلاده , ونموذجية واعية لعطائه
تأصيلا معبرا بذلك عن
الحب والولاء لها .. ورغبة حضارية سامية فى مراعاة حق بلاده عليه
, وحق الآخرين معه مشاركة وتفاعلا بتعدد الآراء
وتنوعها اجتهادا فى التماس السبيل الأمثل
لخدمتها ... وتجسيد المواطنة يظهر فى
ثقافة الانتماء التضامنى
بين أفراد المجتمع , وبما يخدم
مفهوم العلاقة بين المواطن وبيئته وأمته ..
كانت
شريعة القانون الطبيعى
عند البشر قديما هى الحفاظ
على حق البقاء
وصون مملوكه مباشرة وبالقوة
الذاتية للفرد , أو مؤيدا بجماعته
التى تطورت مع الزمن إلى عشيرة , ثم تحولت مجموعة العشائر لتكوّ ن نسيجا
اجتماعيا أكبر
سمى بالقبيلة , ومنها
ـ أى القبيلة ـ وفى ظل
حمايتها له بدأ الفرد يتطامن أحيانا عن شيئ
من غلوائه نزولا
عند رأى ألأغلبية فى القبيلة
, وبدأ يرضى بما يشير به عقلاؤها .. ولا يجد غضاضة فى التنازل عن جزء مما كان يتشبث به عندما يقتضى رأى الأغلبية الوصول
إلى حلّ توافقى مع أطراف أخرى فى شأن ما.
ومع الزمن وبظهور الحياة المدنية فى الدول والمجتمعات الحديثة
, تبلورت تلك الأعراف المتوارثة فى
صورة : تبيان لحقوق الناس الثابتة فى
اختيار من يقودهم كيفا وحينا , لتحديد
علاقة الحاكم بالمحكوم , وضمان حرية
اعتقادهم ومراعاة خصوصياتهم وحرية تنقلهم واختيار من يمثلهم وانتقاء وسائل عيشهم
وسمى هذا البيان بالدستور.
وفى صورة
: نصوص وضعية تنظم الحياة المدنية وفقا لثوابت
رادعة تحددت تفصيلا وأوجبت
مراعاتها , وتضمنت
معاقبة من يتجاوزها سميت بالقانون
.
فتنازل
الفرد عن شريعة القانون الطبيعى إلى سلطة
مركزية تعمل لصالح الناس جميعا لتنظم وترتقى بسبل حياتهم , و لتحل الحياة السياسية محل شريعة القانون الطبيعى .
فحق المواطن الدستورى مربوط وبشكل مباشر
وتكاملى بانضباط دقيق بمراعاة تنفيذ القانون ليحد من جوره على الوطن
أو مواطنيه , لأن طبيعة خلق الإنسان
يُنازع الهوى فيها عقله , فكان لابد من إيجاد الضوابط
المنظمة ملازمة للاعتراف بدستورية حقوقه هذا من ناحية
, ومن ناحية اخرى فان الشراكة مع
الآخرين تستلزم قبول رأيهم والتسليم بحقهم , وقبول الضمير بفكرة مشاركتهم العيش والمعايشة فى وطن واحد , يدافعون عنه
جميعا , ويعملون فيه ولصالح تقدمه واجبا ,
ويتنعمون بخيراته عدالة ,
ويتناولون الأفكار استهاما , ويتبادلون
السلطة مناوبة , ويخضعون للقانون
سواسية. فهذا هو الأساس الذى يُبنى عليه مفهوم المواطنة.
وينبهر العالم بحضارة الغرب دائما , ويُرجعون الكثير من الفضل لمفكريه وفلاسفته فى إيجاد نظرية التعايش الجماعى المنظم ووضع
الدساتير
, وبالرغم مما قيل عن أن ( جون
لوك ) أو ( توماس هوبز ) هما أول من أوجد ما يعرف بنظرية العقد
الاجتماعى فى القرن السادس عشر , ومن بعدهما (جان جاك روسو ) فى القرن الثامن
عشر , فإن الحقيقة أن رسولنا صلى الله
عليه وسلم هو واضع أول دستور مدنى فى التاريخ , وهو أول من أرسى المعنى الكامل لمفهوم المواطنة
المسئولة , فيما سمى بصحيفة المدينة قبل ذلك
بعشرة قرون , فى السنة الأولى للهجرة أى فى القرن السادس الميلادى
, علقت على جنبات المدينة المنورة والمكونة من اثنتين وخمسين بندا ــ وفى بعض
المراجع سبعة وأربعين ــ , منظمة لشئون
المجتمع الجديد , وللمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار , وتنظيم شئون الحياة مع باقى القبائل , ومع أصحاب
الذمة من ساكنى المدينة من اصحاب الديانات الأخرى , وبموجب ذلك الدستور صارت
المدينة المنورة دولة وفاقيه , وأصبحت
جميع الحقوق الإنسانية كحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والعدل والمساواة مكفولة للجميع
بجانب ما يترتب عليهم
جميعا من واجب الالتزام بالدفاع عن المجتمع المدنى عند تعرضه للخطر أو الاعتداء
الخارجى .
فالمواطنة : ( مفاعلة ) بمعنى مشاركة ... فإذا كانت الوطنية هى الانتماء
للوطن وحبه والحرص عليه , فإن المواطنة هى
الممارسة
العملية التطبيقية لمفهوم الوطنية
.
والقصد من دعوة الناس إلى النظرة الأعم
وللمصلحة العليا عن الأفق المحدود للقبيلة
أو الإقليم لا يعنى تحريمها أو إبطالها دينيا أو فطريا باعتبار أن الدين لا يمنع فطرة الناس التى فطروا
عليها , وإنما جاء ليهذبها ويضبط سلوكها . فالمواطنة كفلت للفرد حقوقا مقدسة لا
تنقص قيمتها ولا تـُمس فى جوهرها كحق مكتسب , وإنما وسّعت دائرة الوفاق التعايشى بينه وبين الآخرين , وألزمته بواجبات ضرورية ومهام عملية
يؤديها كالتزام منه مـُنتظر
, وأن يتسع أفق منظوره ليفسح للآخرين بجانبه مكانا , فتطبيق مفهوم المواطنة بين الناس بالمعنى الاجتماعى أو الولائى أو الحضارى هو ألا يقل واجب الفرد فى العطاء التزاما
.. عن حقه فى الوطن اكتسابا , تحت أية ظروف وفى ظل
أى مبرر .
ويذكر التاريخ أنه عندما جُنّ جنون هتلر من بريطانيا التى لم تستسلم له فى الحرب العالمية الثانية كما استسلمت معظم الدول
الأوروبية , دأب إلى حصار الجزر البريطانية بحراسة مشددة
بغواصاته لتغرق كل سفينة تقترب من سواحلها بهدف قطع إمدادت الغذاء عنها ليجوع البريطانيون ويستسلموا , كما سخر مئات
الطائرات لدكّ وتدمير العاصمة وعلى مدار الساعة لكى يشلّ الحركة بها نهائيا , ومع
هذا لم يوجد البريطانيون لأنفسهم مبررا
لكى لا يعملوا لمصلحة بلادهم حتى
وإن كانت بين فكى الحصار البحرى وتحت الدك
الجوى, فكانوا ينامون جماعات متراصة فى أنفاق محطات القطارات ليلا ليبادروا
فى الصباح بمباشرة أعمالهم , ومنهم من كان يبيت ليلته على
الطوى .. فترجمت مواطنتهم حقيقة وطنيتهم
.. وخرجوا من الحرب منتصرين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق