رجل عصي علي النسيان
يقول من لم يجرب ما نكابده
كأن أجملهم بالموت قد فتنوا
يهوي الشهيد وفي عينيه حيرتنا
هل مات بالنار أم أودى به الشجن
لك اتجهنا وموج الحلم يجمعنا
فبعثرتنا على امواحها السفن
أرجع فديتك إن قبراً وإن سكناً
فدونك الأرض لا قبر ولا سكن
يقول من لم يجرب ما نكابده
كأن أجملهم بالموت قد فتنوا
يهوي الشهيد وفي عينيه حيرتنا
هل مات بالنار أم أودى به الشجن
لك اتجهنا وموج الحلم يجمعنا
فبعثرتنا على امواحها السفن
أرجع فديتك إن قبراً وإن سكناً
فدونك الأرض لا قبر ولا سكن
"مريد البرغوثي"
منصور رشيد الكيخيا :
هذا رجل لا يسكن قبره لأننا لا نعرف له قبر... هذا رجل لا يسكن قبوه لأننا لا نعرف له قبو... ولأنه كذلك اسكّناه قلوبنا ورفاقه وأرتضينا لهم صدورنا قبورا... وجعلنا وطن البطوم عنوان له يسكن اليه كل المغدورين... و"نثرنا" ترابه من السلوم الى راس جدير... وناديناه حتى بحّت اصواتنا... وحزنّا عليه حتى فرطت قلوبنا... وانتظرناه ان يأتي دائما ولم يأتي...
إنه "مرابطنا" الذي نتبرك به، ونشكو له ظلم الأيام... و"كبيرنا" الذى نرد له الأمر كلما تذبذبت بوصلتنا أو ضاع الدليل... و"حكيمنا" حين يقاتل وحين يحاور وبين البينين... و"صّمام" اماننا ضد الضعف وضد التطرف... ضد الوهن وضد القوة الكاذبة.
هذه السنوات الطويلة المريرة لم تغّيبه رغم غيابه... لا يزال يطل علينا بقامته المهيبة كل صباح يوزع ابتسامته الساخرة علينا ويوصينا بالنفس الطويل.. لا يزال يتفقد طوابير الصباح في المدارس الخالية من الكتب والتدفئة.. ويدثر اطفالنا بدفئه.. ويعرج كل مساء يواسي مرضانا المحرومين من الدواء.. لا يزال يكاتب منظمات حقوق الانسان يناشدهم رعاية المعتقلين، ويعد شهداء بوسليم فردا فردا ويوثق حالاتهم... ويزور اطفال الإيدز حاملا لهم زهور الأمل..
هذا رجل عصي على النسيان...
ها هو يعلمّ في مدارس العمال الليلية.. ويتابع الحلقات الحزبية.. ويختم البغدادي في بيت "الباشا" في شارع العقيب.. و"يمدح" في "الزوية الرفاعية" ويحتسي قهوته "القدقد" في مقهى العرودي.
هاهو يداعب الأصدقاء في مقهى "الخضراء" ويستقبل عائلات المعتقلين في مكتبه بطرابلسن ويسهل معاملات حركات التحرر التي نسته.
ها هو في الجزائر غداة استقلالها.. وهي تغلي بالانقسام.. ولا يجد بن بيلا مكانا يرتاح فيه من عناء الصراع غير بيته.. لكن الثوري السابق اصابته بعد ذلك آفة النسيان.
ها هو رصاص الغدر ينهال على الليبيين في المهجر، فيطير الى عّمان ليجتمع مع ابوعمار وابواياد وجورج حبش ويأخذ منهم تعهدا تاريخيا بأن لا يستخدم فلسطيني واحد ضد المواطنين الليبيين العزل.
هذا رجل عصي على النسيان...
لا يزال يحدق في خاطفيه/ قاتليه ويتحداهم بالكلمة وحدها كما كان يفعل طوال عمره... لا يزال يتظاهر امام المقار الدولية حاملا صورة شهيد... لا يزال يقف مع الأمهات في ميدان الشجرة... لا يزال يرافق السجناء الى غرف التحقيق.
هذا رجل عصي على النسيان...
آمن بالحوار فغيبه الجّلاد عن جيهان ورشيد وبهاء وعنّا... هل يمكن الحوار في غياب المحاور.. ومن يسرد "الحكايات عند غياب الراوي".
آه يا منصور العقل والمنطق والدهاء... آه يا منصور الصبر والتأني والكبرياء... آه يا منصور التكتيك والاستراتيجية... القومي الذي يكون وطنيا اولا... والأممي المعتمر هويته القومية... والمسلم في اعتدال... والعلماني الذى لا يقبل الاستبداد.
كم نفتقدك في هذه الأيام الحبلى يا رجل... كم نفتقد القلب الذي يحتضن الخصوم قبل الأصدقاء... كم نفتقد العقل الذى لايغيب لحظة في حلقات الصراع... كم نفتقد المنطق الذي لايحرق المراحل... وقبل كل ذلك... وبعد كل ذلك... كم نفتقد مهندس الوحدة الوطنية التي لم تلتئم منذ غيابه.
لقد كنت استاذنا في "أدب المعارضة"... فهل تطلّع الان على "أدب" بعض "المعارضين"... هل ترى كيف ينطفئ "زيت": البعض في الخارج.. ويتوهج "زيت" البعض في الداخل... هل اتاك حديث امهات الشهداء... والأقلام المشعة بالوفاء... وتكبيرات العيد التي صمّت آذان المواقع المشبوهة، والتحليلات المشبوهة، والتنظيمات المشبوهة.
تكاد تنبئتا في ذكرى غيابك المفجع ان ليبيا تحبل من جديد بجيل غامض غاضب يطيح بالأصنام ومن يعبدها... تكاد تنبئنا يا منصور بالنصر... تكاد تنبئنا يا منصور بالنصر
محمود شمام 27/02/2010